ثقافة ومنوعات

العيد، فرحةٌ روحانيّة وانسانيّة تقمع انحراف وسائل التواصل

العيد، فرحةٌ روحانيّة وانسانيّة تقمع انحراف وسائل التواصل 

أيمن مرابط – الرباط

لا شكّ في أنّ أجمل الأيام التي نعيشها في حياتنا نحن البشر، هي أيام الأعياد والمناسبات خاصة الدينية، لأنَّها تحمل في طياتها طابع الفرح والاحتفال والسعادة ومظاهر جميلة متعددة، ولكونها كذلك أيامًا وأعيادًا لا تنقضي، صالحة على طول الزمن، لها سيرورة تاريخية ممتدة منذ آلاف السنين وأكثر، تبقى راسخة في المجتمعات والشعوب بكل تقاليدها وأعرافها وحمولاتها التي تتوارث من جيل إلى آخر، فتطبع بذلك تاريخ وحضارة كل شعب وأمة على حدة.

جمال الأعياد يكمن أيضا في كونها مناسبات تُظهر عراقة حضارة الشعوب الإنسانية في كلّ بقاع العالم بمختلف أديانهم وحضاراتهم، وتفرّدهم وتميّزهم في الاحتفال بها، لدرجة تجعل المتتبّع يشعر كأنها تتنافس فيما بينها حول أجمل وأرقى احتفال بالعيد، خاصة إذا كان هذا العيد يهمّ شعوبًا لها ديانة واحدة، كما هو شأن الديانات السماوية، حيث كلُّ شعب يحتفل ويظهر ما تختزن ذاكرته الحيّة من تقاليد عريقة وعادات ضاربة في جذور الزمن.

المحبة.. عنوان الأعياد.

في الأيام الماضية، احتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بعيد الفطر السعيد، بعد شهر رمضان، هذا الشهر الاستثنائي الذي خصّه الله بركن الصيام وجعله فرضًا وعبادة نتقرب بها إليه وأنزل فيه القرآن الكريم، وفتح فيه أبواب السماء وغيرها من المميزات التي تُميز هذا الشهر العظيم لدى المسلمين، ليأتي بعده مناسبة هي بمثابة هدية إلهية للصائمين تتمثّل بعيد الفطر بفاتح شوال، هي خصوصيات دينيّة، إيمانيّة، عقائديّة ،وتعبدية محضة وذات دلالات عظيمة يحملها هذا العيد.

كذلك، عيد الفطر هذا، يجعلنا نرى أجمل وأبهى ما يحمله الإنسان من قيم عظيمة وما يُكنه من محبّة للناس عامة هي غير قابلة للنضوب، فالمحبة هي في الحقيقة سر كلّ المناسبات والأعياد المُفرحة، تبدو جليّة على محيّا الأطفال والكبار والنساء والشبّان وكلّ فرد، وتتجدَّد أوصالها وتُمتّن حبالها بين العائلات والأسر وبين المجتمع ككل.

في الحقيقة، يؤكد لنا العيد أن الفرح والمحبّة وقيم التسامح هي ما يليق بالإنسان وبفطرته التي خلقه الله عليها، وهي ما يتماشى مع الطبيعة البشريّة والكونيّة، تؤكد لنا مدى جماليّة هذه الروح البشرية، فالكره والبغض خصالٌ يستحيل أن تليق عليه مهما حاول أن يفرضها على نفسه، ومظاهر الحرب والقتل والدمار التي تفتك بالبشر والحجر والشجر لا تليق ولا تستقيم مع قيم البشريّة، ولا يستحقّها أيّ إنسان من أخيه الإنسان، وأنّ الإسلام هو دين السلام.

جماليات حضارية مترسخة

لا تُعد ولا تحصى المظاهر الجمالية لعيد الفطر وكل الأعياد الدينية، وطرق الاحتفال بها بين الشعوب والأمم على اختلافها تجعلك تشعر كأنّها أعياد خُصصت فقط لهذا البلد أو ذاك دون سواه، وهنا الحديث عن العادات والتقاليد الخاصة بكل شعب، ففي المغرب على سبيل المثال لا الحصر، يكون جدول يوم العيد مليئا بذكر الله بدءا من تكبيرات العيد في المصلى التي تمتلئ بعشرات الآلاف من المصلين يأتون لأداء صلاة العيد، بعدها يتبادلون التهاني والتبريكات فيما بينهم، وينصرفون إلى منازلهم حيث العائلات تجتمع وتجدّد اللقاء والوصال بعد أيام أو شهور وربما سنوات من هجر فرضته ظروف الزمن والحياة عليهم.

قبل ذلك، يحرص المغاربة على التزين بأرقى لباس تقليدي وهو الجلابة المغربية تلك التحفة المختلفة أثوابها وألوانها وأشكال خياطتها. يحرص الخيّاط المغربي على صنعها بكلّ دقة ومهارة وخبرة لتكون مكتملة دون عيوب، وتحتها قميص “الجابادور” أو “التحتية” كما يسميها البعض، يلبسها الرجال والنساء والأطفال فتضفي على الرجل هيبة ووقارا، أما النساء فهن  لوحات مرسومة  في غاية الجمال والبهاء تسر الناظرين، يتزينَّ بكلّ ما أوتين من حليّ وزينة، ليحتفلن بهذا العيد رغم تعبهنَّ وشقائهنَّ في تحضير ما لذَّ وطاب مما جادت به أياديهنّ من حلويات وأكلات شهية عريقة وضاربة في القدم بشهادات مكتوبة تُؤرخ بقرون من الزمن.

مظاهر احتفالية رقمية ترسخ الحب

الأكثر جمالا وربما ما يثير الدهشة، هو قوة حضور هذه المظاهر الاحتفالية في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، حيث ترتفع فيها كل مؤشرات الفرح والسرور والأخوة، وتصبح أدوات لإثبات قيم وعادات اعتبرها البعض تنقرض، وتتعرض للهدم بسبب هذه المواقع، لكن العكس هو ما يحدث سنة تلو الأخرى، إذ تعج الصفحات والحسابات بصور صلاة العيد والناس باللباس التقليدي الخاص بهم، وصور العائلات المجتمعة والحلويات والموائد في كل بلد ومدينة وقرية، الكل يثبت حضوره وحضور عاداته وتاريخه وذاكرته وكل ما يرتبط بذاته الإنسانية.

وعلى حين غرة، تتحول الخطابات في هذه المواقع من الشجار والخصام والقدح والردح وحتى السب والشتم على أشياء تافهة، إلى التهاني والتبريكات والمدح ووضع رموز القلوب والقبلات والورود وتعابير المحبة، بل تنقلب رأسا على عقب، ناهيك عن التهاني العابرة للقارات وحتى الديانات، فقبل عيد الفطر بأيام حين احتفل المسيحيون في المشرق العزيز بعيد الفصح، هنأهم المسلمون وفرحوا معهم، وهم كذلك تعاملوا مع المسلمين في عيدهم وقبله رمضان وفي كل المناسبات.

 هي صور تُرسخ قوة الروابط الإنسانية وقدرتها على الصمود في وجه تيارات شاذة متطرفة تسعى لتدميرها ومدى تجاوزها لكل الخطابات الاختزالية والتحريضية والعنيفة، وأن ثمة أشياء لا يمكن أن تمحوها عوامل الزمن ولا الحداثة أو الفردانية، بل حياة الحداثة نفسها من خلال شبكات التواصل وسرعة انتشار الخبر هي التي أتاحت لنا عيش هذه المشاهد الرائعة بين مختلف البلدان وأعادت الاعتبار التاريخي الحضاري لما كاد أن ينقرض.

في الواقع، تستحق هذه السلوكيات الإنسانية في العالم الرقمي المتابعة والملاحظة والدراسة البحثية من قبل كل الباحثين في العلوم الاجتماعية المهتمين بالسلوك الاجتماعي والفردي والنفسي، كما أنّها تطرح أسئلة عميقة حول الإنسان وسلوكياته وتصرّفاته داخل هذا العالم المتشابك في كلّ شيء، وكذا الدوافع العميقة التي تجعله كلَّ يوم في شأن، تارة يحتفل ويُظهر أجمل صورة منه، وتارة يكون بصورة معاكسة لا تليق به أبدا.

إنَّ الجمال الذي خلقه الله وأحبه وحبّب عباده إليه وبث في قلوبهم الحب والرحمة والأخوة، مظاهره وإن نُعدها واحدة بواحدة لن نُحصيها، هي بمداد البحر وبعرض السماوات والأرض، ويختزنها كلٌّ إنسان في قلبه وروحه، فالحس الجمالي لدينا هو أعمق مما نتصور، وحين نبرزه في أيام العيد او أي مناسبات مُفرحة فإننا نُظهر فقط الجزء الظاهر فقط، وما خفي كان أعظم.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button