افتتاحية

لبنان: بيعُ الوطن لشراءِ رئيس   

لبنان: بيعُ الوطن لشراءِ رئيس 

سامي كليب:

يروي إعلامي عربي عريق كان يُغطّي في العام 1969 وقائعَ “اتفاق القاهرة” بين الوفد اللبنانيّ برئاسة قائد الجيش إميل البستاني والوفد الفلسطيني برئاسة ياسر عرفات، أنَّ أمينَ عامِ جامعةِ الدول العربيّة محمَّد عبد الخالق حسّونة، هَمَسَ في أذنه سائلاً:” هل يعلم رئيس لبنان أل … (استخدم كلمة نابية) على ماذا يوقّع؟”.

تبيّن لاحقًا أنّ الرئيس الراحل شارل حلو لم يكن يعلم فعلاً كلّ ما تم التوقيعُ عليه في القاهرة في الثالث من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1969، تمامًا كما كشفت الوثائق أنّ قائدَ الجيش اللُبناني كان قد حازَ على رِضى وإعجابِ الرئيس جمال عبد النّاصر الذي وعده بالرئاسة، بينما المكتب الثانيّ سعى لمحاربة الاتّفاق واعترض عليه قبل أن تُكشَفَ بنودُه السرّية لاحقًا والتي شرّعت العملَ المُسلّح الفلسطيني في لُبنان بذريعة محاربةِ العدو.

لم تقتصر مصيبةُ تفلّت السلاح في لُبنان على عهد الرئيس شارل حلو، الذي كشفت مراسلاتُه مع السفير الأميركي آنذاك، أنّه كان قد قَبِلَ بالاتفاق مُرغَمًا بسبب ضغوط خارجيّة وعربيّة وتخلٍ أميركي (راجع كتاب “شارل حلو: هاملت اتفاق القاهرة”)، بل تكاد المصائب المتنوّعة والمتعدّدة تكون سِمَةً بارزةً لكلّ مراحلِ لُبنان منذ الاستقلال حتّى اليوم، في سياق البحث عن رئيسٍ للجمهوريّة.

بات الرئيسُ اللُبنانيّ منذ الاستقلال، عبارةً عن “تصنيعٍ خارجيّ وتجميعٍ داخليّ”، تمامًا كالبرّاد الصيني. وإذا ما استثنينا مرحلتَي عبد الناصر وإسرائيل، فإنّ سورية لَعِبت بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركيّة، أدوارًا محوريّة في “تعيين رؤساء لُبنان” بعد امتحانهم من قِبَلِ حلفاء الوصايات الخارجيّة. لا بل حتّى بشير الجميّل نفسُه الذي وصل إلى رئاسة الجمهوريّة بأصواتٍ اسلاميةٍ ومسيحيّة، كان قد زارَ سوريا قبلَ الاجتياح الإسرائيلي بنحو عام والتقى الرئيس حافظ الأسد للوساطة مع آل فرنجية بعد ثلاثِ سنواتٍ من التنافر الكبير في أعقاب مجزرة اهدن الشهيرة بدمائها وبؤسها (وفق رواية كريم بقرادوني المحامي والكاتب والقيادي الكتائبي السابق).

في هذا السياق، يُمكن أنْ نقرأ رواياتٍ كثيرةً في كتاب:” أجملُ التاريخ كان غدًا” لمؤلّفه نائبِ رئيسِ مجلس النوّاب سابقًا إيلي الفرزلي. ففي الكتاب، الذي اقتبس عنوانَه عن الشاعر سعيد عقل، ما يندى له الجبينُ خَجلاً حين نعلم كيف كانت امتحاناتُ المُرشّحين تجري للموافقة على هذا الجهبذ أو ذاك العبقرّي لتولّي شؤون الرئاسة، او الحكومة، أو الوزارة او النيابة.

يقول الفرزلي مثلا:”كان من عادة غازي كنعان (قائد القوات السوريّة آنذاك في لُبنان والحاكم الفعلي) استمزاج رأيي في المُتفرّقات والاستحقاقات الرئاسيّة الحاسمة، فأُقدّم له في كلّ مرّة، مطالعةً مكتوبةً تتضمَّن تحليلاً وافيًا للظروف والنتائج، ولم تكن مطالعتي عن الياس الهراوي هي الأولى من نوعها في هذا السياق، فقد سبق أن شرحتُ أيضًا، في مطالعة مماثلة، تعذُّر انتخابِ الرئيس السابق سليمان فرنجيّة”.   

إذ يروي الفرزلي، أنَّ الهراوي نجح في الامتحان لأنَّه وافق على ضرب العماد ميشال عون، فإنّ المرشّح جان عبيد رسب حين سأله السوريون عمّا سيفعله بالجنرال المتمرّد، فأجاب:” سأجري حوارًا مع ميشال عون بُغية جمع الجيش اللبناني وإعادةِ توحيده”، فقال له عبد الحليم خدّام (نائبُ الرئيس السوريّ آنذاك):”تريد أن تحاورَ عميلاً للفاتيكان وفرنسا؟ ردّ عبيد ببرودته وذكائه المعهودَيْن: “أنتم حاورتم مَن كان عميلاً لإسرائيل” (في إشارة الى إيلي حبيقة)، فرسبَ في الامتحان.  

كلُّ كُتُبِ المذكّرات اللُبنانيّة والدوليّة التي فرّخت كالطحالب في السنوات العشر الأخيرة أكّدت على ذاك الذُل اللُبناني المُستشري دائمًا حيال الخارج، والذي يصل الى ذُروتِه في فترات الانتخابات الرئاسية. فهذا مثلا الرئيس جاك شيراك يروي في مذكّراته القصّة التالية عن اتّفاقه مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على اختيار العماد إميل لحّود رئيسًا للُبنان، فيقول:” حَرِصَ حافظ الأسد على استشارتي في كانون الأول/ديسمبر 1998 حيال تعيين الرئيس اللبناني المُقبل. وطلب منّي أن أُرسل له خمسةَ أسماءٍ يختار من بينها، فوضعتُ بينها اسمَ الجنرال إميل لحّود الذي كان يتمتَّع بسمعة طيّبة، وتمّ فرضُه في نهايةِ الأمر من قبل دمشق” ( وطبعًا بغطاء أميركيّ). لاحِظ عزيزي القارئ كم تحملُ كملة ” فُرِضَ” من الذُلّ، بالرغم مِن أنَّ قائلَها هو رئيسُ دولةٍ يُفترَض أنّها ديمقراطيّة وتؤمن بنزاهة الانتخابات وحريّتها.

سقطت كلّ النزاهة والحريّات حين تعلّق الأمر تاريخيًّا بمصالح فرنسا في الشرق الأوسط، فجاء شيراك حاملاً الى الأسد في تشرين الثاني/ أكتوبر 1996 مشروعًا مُتكامِلاً للتقارب على حساب لُبنان (راجع أرشيف جريدة السفير)، لا بل وعلى حسابِ مسيحيّيه أيضًا. اعترفت باريس للمرّة الأولى، وفي بيان مُشترك فرنسي-سوري بين وزيرّي خارجيّة البلديَن الآن جوبّيه وفاروق الشرق، بدور سوريا في لُبنان وبتكامل الدوريَن الفرنسي والسوري على الأراضي اللُبنانيّة. بادَلَه الأسد الجميلَ بآخر، حين فرضَ فرنسا شريكًا في تفاهمات نيسان بين لُبنان وإسرائيل بعد المجازر الاسرائيليّة.

ليست مُشكلةُ لُبنان حاليًّا في عدم الاتفاق الداخلي على رئيس، فهذا من رؤى الأحلام، بل في عدم اتّضاح الرؤية الخارجيّة وسْطَ ضبابيّة شاملةٍ في العلاقات بين الولايات المتَّحدة الأميركيّة وإيران، أو بين إيران والسعودية، بينما الدورُ الفرنسيُ الحائرُ في دوّامة الفراغ، يُشبه الساقطَ من مركبةِ فضائيَّة في منطقة الفراغ الجوّي، فلا هو قادرٌ على الصعود ولا يملكُ وسيلةً للهبوط، فيذهبُ تارةً صوبَ الرياض وواشنطن، ويعود تارةً أُخرى نحو الضاحية الجنوبيّة مُهادِنًا حزب الله (أو مُغازِلاً).  ثمَّ جاءت حربُ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا لتزيدَ الضبابَ كثافةً وتزيد طينَ لُبنان بلّةً.

كانت ثمةُ فرصةٌ يُمكنُ انتهازُها في مراحل الضباب الاقليميّة والدوليّة، للاتفاق الداخليّ على رئيسٍ يحملُ مشروعًا إصلاحيًّا حقيقيًّا، ويلعبُ دورَ المُنقِذ، والموحّد، والقادر على استنهاض خططِ التنميّة والاقتصاد، لكنّ ساسةَ لُبنان ثابتون على ذُلّهم، فيما كلُّ شيءٍ يتغيّر ويتحوّل. هم ثابتون على استجداء صفقةٍ خارجيّة، وواهمون بأنَّ ثمةَ طرفاً سيفوز وآخرَ سيُهزم. لا بأس إذاً من تضييّع شهور أكثر، مع احتمال انفجارِ توتّرات أمنيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة، قد تكون هي الأخرى ثمنًا لاستجرار صفقةٍ خارجيّة، فنربح رئيسًا ونستمر في خسارة الوطن.

هذا بالضبط ما يُسميّه الكاتب الفرنسي إتيان دو لا بويسي:” العبوديّة الطوعيّة”.

 ومَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ!

 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button