سامي كليب:
أما وقد هدأت قليلاً النفوس المشحونة بالمذهبية والطائفية والحقد المتبادل وظهرَ المرجُ تحتَ الثلجِ، وتبيّن أن أقل من نصف اللبنانيين فقط هم من شاركوا في الانتخابات التشريعية، نستطيعُ الاستنتاج بوضوح، أن حزب الله انتقل من الغالبية المُباشرة مع حلفائه، الى غالبيةٍ مرنة ومتحرّكة، لكنها ثابتة في القرارات الاستراتيجية للمحور الذي تقوده إيران على مستوى المنطقة، وذلك بانتظار ظروفٍ أفضل، الا إذا اندلعت ثورة حقيقية للفقراء والجياع.
ويُمكن سرد الخُلاصات التالية:
- من مصلحة الحزب أن لا يكون مع حلفائه على رأس غالبية واضحة في السُلطة لثلاثة أسباب رئيسة: أولها أن ردة الفعل الدولية والعربية كانت ستتجه لتضييق الخناق بتهمة أن الحزب يُسيطر على لُبنان، وثانيها أنه لا يُريد أن يكون وحيدا في مواجهة الكوارث الاقتصادية والاجتماعية وربما الأمنية المُقبلة وما سيتخلّلها من تنازُلات مُحتملة في مسألتي صندوق النقد الدولي والحدود، وثالثها أنه يُريد الاستمرار في التركيز على أولوية الحرب مع إسرائيل والتي يبدو أنها قادمة عاجلاً أم آجلاً وفق ما يشرح بالمعلومات والوثائق الكتاب الفرنسي الذي صدر مؤخرا بعنوان ” حرب الظل، بين إسرائيل وإيران”.
- ظهر جليّا من الجلسة الأولى لمجلس النواب العنوان البارز للمرحلة المُقبلة. فقد صحّت المقولة ” قولوا ما شئتم ونحن نفعل ما نريد”. كان القرار الاستراتيجي يقضى بأن يبقى نبيه برّي رئيسا للمجلس والتيار الوطني الحُر بشخص الياس أبو صعب في منصب نائب الرئيس، كل التفاصيل الباقية ليست مُهمّة، فحين يحتاج الثُنائي الى شيء من الأقليات أو حتى من بعض الخصوم، سيكون ثمة اغراءات كافية لجذب صوتٍ من هُنا واصواتٍ من هُناك.
- سينسحب ذلك على استحقاقات كثيرة مُقبلة، وخصوصا منها رئاسة الحكومة ثم رئاسة الجمهورية، لن يسمح الحزب بأي تركيبة سياسية في لُبنان تُناقضُ الأهداف الاستراتيجية للمحور، لكنه سيوحي بمرونة كبيرة في التفاصيل الداخلية التي يُدرك أنها لن تكون كبيرة التأثير.
- في المقابل، لا توجد مُعارضة موحّدة، صحيح أن بعض النوّاب الجدد، والذين يُطلق عليهم صفات مُختلفة مثل ” التغييريين” أو ” السياديين” أو ” المُستقلين” وهم ليسوا جميعا كذلك، سيثيرون الكثير من الضجيج في المرحلة المُقبلة، لكنهم في نهاية المطاف سيبقون محكومين بالتحالفات كي يمرّروا مشاريع قوانين، وكل من سيتحالفون معه هو حتما ليس سياديا ولا مستقلاّ، ذلك أن معظم المسؤولين اللبنانيين ومعظم الأحزاب والتيارات لهم ارتباطات خارجية، أو أنهم في محور ضد آخر.
- لا شكّ أن النواب الجُدد، أحدثوا بعض الفرق، وأنعشوا بعض الآمال، لكن وصولَ عدد منهم الى مجلس النوّاب، ما كان ليتحقّق لولا دعم بعض الأحزاب السلطوية، أو الأحزاب التقليدية، ولذلك فقد نجد في المرحلة المُقبلة أن بعضهم سيتجنّب أي انتقاد للطرف الذي ساهم بوصوله، ناهيك طبعا عن تناقض واختلاف مشارب واهداف واتجاهات كلّ منهم، بالإضافة الى بعض المصالح الشخصية التي ستطرأ لاحقاً، ذلك أن هؤلاء النوّاب بحاجة الى تلبية مطالب الناس الذين آمنوا بهم وانتخبوهم، وهي مطالب كبيرة وصعبة في بلد يعاني الانهيار والفقر وذروة الفساد. وما لم يلبّوها، فهذا يعني أنهم سيصبحون في عين العاصفة من قبل الناس وخصومهم السياسيين، وهو ما بدأنا نشهده منذ انقسموا على بعضهم حيال التصويب لمنصب نائب رئيس مجلس النواب، وكان في الأمر خطأ يقارب الفضيحة، بنظر البعض، بينما يرى البعض الآخر انهم ما زالوا في مستهل تجربتهم وخبرتهم السياسية ( باستثناء بولا يعقوبيان طبعا التي خبرت السياسة والاعلام والمجلس) وإن الخطأ طبيعي شرط الا يتكرّر لأنه سيكون قاتلا.
- أما الطرف الأكثر ميلاً للمواجهة، أي القوّات اللُبنانية، فهي محكومة بأمرين، إما الاستمرار بالتشدّد والتحدّي ما قد يؤدي الى إثارة مُشكلة كُبرى ضدها في العمق المسيحي في مواجهة مُحتملة مع التيار الوطني الحر وكذلك في مناطق الاحتكاك مع حزب الله، أو تتجه الى منطق التسويات مع الرئيس بري في سياق الاستحقاقات السياسية المُقبلة وخصوصا منها رئاسة الجمهورية التي بطبيعة الحال لن تكون قرارا لُبنانيا محضا وانما ثمرة تسويات خارجية. ربما سيكون من مصلحة القوات أن تبقى على معارضة شرسة في المرحلة المُقبلة لكونها باتت بالنسبة لدول خليجية وكذلك الغرب رأس حربة مواجهة حزب الله مع بعض الحلفاء الآخرين.
- على المستوى الخارجي، فإن نتائج الانتخابات التي أوحت بانقسام الطبقة السياسية الى أقليّات وانعدام وجود أغلبيات، مُريحٌ الى حدٍ ما في حال نشُطت بعض الوساطات الخارجية لترتيب المرحلة المُقبلة سياسيا واقتصاديا، فهذا مثلا يُساعد فرنسا في محاولة اقناع الولايات المتحدة الأميركية ودول خليجية بأن الحزب ما عاد صاحب القرار الأول. وهذا يُساهم أيضا في طمأنة إسرائيل على أن الحزب ما عاد يتمتع بقاعدة شعبية لُبنانية واسعة وبالتالي فهو سيكون محدود الحركة في مواجهة أطراف رفعت عاليا الصوت ضده في السنوات المُقبلة. وهذا يُساهم في إيجاد صيغة ما لترسيم الحدود.
بناء على ما تقدّم، سيكون لُبنان أمام 3 احتمالات:
إما نجاح الحزب وحلفائه في جذب أقليات أخرى لتمرير ما يُناسب المرحلة استراتيجيا، أو الانتقال الى مرحلة تعطيل سياسية ( وهذا محتمل جدا) تُشبه ما يحصل في العراق وترافقها موجات عالية من تبادل الاتهامات والمواجهات الكلامية التي قد ينزلق بعضها الى الشارع، أو انتظار تطورات المنطقة التي ما زالت تراوح بين مخاطر الحرب واحتمالات الصفقة السياسية ( وهي صفقة تحتاج خصوصا تفاهما كبيرا بين السعودية وايران بغطاء دولي) . بانتظار ذلك، من الصعب فعلا التفكير بأن الحزب خسر الغالبية وبات ضعيفاً، فما زالت إمكانيات سيطرته على القرارات الكُبرى أكبر بكثير من تلك التي يتمتع بها خصومه، ولا شك ان بعض الخصوم هم أصلا متبدّلون بحيث قد نرى بعضهم في مرحلة المصالح قد ذهب الى الضاحية الجنوبية للتنسيق.
أما الذي قد يفاجئ الجميع مرة ثانية، فهو غضبُ الناس الذي سينفجر عاجلاً أم آجلاً نظراً لانعدام وجود أي أفق لحلول اقتصادية واجتماعية، صحيح أن اللبنانيين أعادوا تقريبا الطبقة السياسية ذاتها مع بعض التعديلات الطفيفة، لكن الصحيح أكثر هو ان أكثر من نصف الناس لم يصوتوا، وان قسما من الذين صوتوا وضعوا آمالَهم بإمكانية إيصال نواب مستقلين فعلا يريدون التغيير، واذا وجد كلّ هؤلاء أن الجوع يكبُر وتحلّل الدولة يستمر والأسعار ترتفع أكثر والليرة تنتحر والنواب الجدّد عاجزون، فهم حتما سيعودون الى الشوارع، وغالبا ما تكون العودة الثانية هي الثورة الحقيقية.