التقرير الاستراتيجي
سامي كليب
يعتقد كثيرون ان أوكرانيا دولة صغيرة، وهو ما دفع رئيسُها اليهودي الديانة فلوديمير زيلينسكي الى تذكير الرئيس الأميركي جو بايدن بأنها ليست كذلك ودعاه للتوقف عن استخدام هذا المصطلح . الواقع أن أوكرانيا هي ثانيةُ أكبر دول أوروبا بالمساحة بعد روسيا حيث تبلغ مساحتُها نحو 700 ألف كلم مربّع. ويفوق عدد سكانها أكثر من 44 مليونا. أي انها أكبر من فرنسا بنحو 50 ألف كلم2، ومن المانيا بنحو 250 ألف كلم2 ،وهي اكبر بمرتين من مساحة إيطاليا.
وصفت اوكرانييا تاريخيا بأنها ” اهراءات قمحِ أوروبا” ذلك لأن فيها 32،5 مليون هكتار من الأراضي الزراعية وبينها ما تُعرف بالأراضي السوداء المشهورة بخصوبتها الاستثنائية.
في مطلع القرن العشرين، كانت أوكرانيا تؤمن نصف انتاج القمح للإمبراطورية الروسية الشاسعة،وكان 90 % من صادرتها يساهم بنحو كبير في ميزانية الدولة الروسية، وهو ما جعل روسيا تتربع على عرش الدول المصدرة للقمح في العالم الى جانب الولايات المتحدة الأميركية.
هذا ما يُفسر الوان العلم الأوكراني، ذلك ان الأصفر يشير الى القمح والازرق الى السماء.
اليكم هذه الأرقام المُهمّة:
- ان منتجات القمح والصناعات الغذائية في أوكرانيا كانت في العام 2019 تمثل 15 %من الناتج القومي الخام بسبب ملايين الهكتارات من أراضيها القابلة للزراعة، أي نحو 70 % من المساحة الاجمالية، وهو ما يُوازي ثلث مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في كل الاتحاد الأوروبي.
- منذ العام 2010 احتلت أوكرانيا قائمة أكبر الدول المصدرة للحبوب،فكانت في العام 2018 في المرتبة الثامنة عالميا في انتاج القمح، والخامسة في تصديره منافسة بذلك روسيا المصدّر العالمي الأول،والخامسة في انتاج الذرة والرابعة في تصديرِها عالميا.
- في العام 2005 كانت روسيا تصدّر الى أوكرانيا 74 بالمئة من حاجاتها من الغاز الطبيعي و85 بالمئة من البترول.
- كانت أوكرانيا أيضا كبيرة الأهمية لروسيا حيث يمر عبر أراضيها 80 بالمئة من الغاز الروسي الى أوروبا
- عام 2014 تدهورت العلاقة بين روسيا وأوكرانيا فقلّصت كييف استيراد الغاز من روسيا، وصارت منذ العام 2015 تستورد كلّ غازها من أوروبا الوسطى وتحديدا من سلوفاكيا وبولونيا، وراحت تلجأ أيضا الى استيراد طاقة نووية من شركات اميركيا لتغذية مفاعلاتها النووية الأربع.
- منذ العام 2016 وبعد توقيعها اتفاق التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي والذي قابلته موسكو بوقف اتفاقها المماثل مع أوكرانيا، تغيّر التبادل التجاري بين كييف وموسكو، فصارت أوروبا تصدّر منذ العام 2018 أكثر من نصف حاجات أوكرانيا من البضائع، وغدت الصين الشريك التجاري الأول لأوكرانيا.
- كان مرور الغاز الروسي عبر أوكرانيا الى أوروبا يشكل مصدر دخل مهم لكييف، لكن منذ تدهور العلاقات، لجأت روسيا الى نقل الغاز عبر بحر البلطيق خصوصا بعد الشروع في استخدام خط النقل نورث ستريم منذ العام 2012 والرابط بين روسيا وألمانيا، ثم نورث ستريم اثنان الذي كان من المنتظر ان ينتهي بين العامين الماضي والحالي.
من الناحية النظرية إذاً ما عادت روسيا وأوكرانيا مرتبطتين عضويا في قضايا الطاقة والثروات، لذلك فان التوتر الحالي بين روسيا والاطلسي له أهداف أخرى سنعرضها لاحقا.
ماذا عن الأديان في أوكرانيا؟
الديانة الارثوذوكسية هي المسيطرة تقريبا على ثلثي السكان ولها حضور مكثّف في مناطق الشمال والوسط والجنوب، ويتوزع الموالون لها على ثلاث كنائس، بطريركية موسكو، وبطريركية كييف التي ولدت في العام 1992 غداة استقلالها عن الاتحاد السوفياتي الذي تفكك، والكنيسة الارثوذوكسية الأوكرانية المستقلة التي تأسست عام 1921 بعد انهيار الإمبراطورية الروسية.
منذ العام 2019، توحدت الكنيستان الارثوذوكسيتان في أوكرانيا وارتبطتا بالبطريركية القسطنطينية وهو ما أثار غضب الكنيسة الروسية وسلطات موسكو التي سارعت الى اتهام اميركا والغرب بتقسيم الكنيسة لأهداف سياسية وأمنية.
- أما في غرب أوكرانيا فتقوم كنيسة الروم الكاثوليك التي ولدت في نهاية القرن السادس عشر وتدعمها روما. هذه الكنيسة التي مُنعت في العام 1946، عادت الى الحياة مع استقلال أوكرانيا.
- تعترف أوكرانيا كذلك بالأقليات الدينية وبينها البروتستانتية والكاثوليكية والإسلام خصوصا الذي يعتنقه التتار في منطقة القرم، واليهودية.
- بالنسبة لليهودية، فان الدليل الثقافي ليهود أوروبا يشير الى وجود نصف مليون يهودي أي ما يمثل 1 بالمئة من سكان أوكرانيا. ارتبط تاريخهم هناك بيهود بولونيا او بولندا، وتعرّضوا لمجازر وحظر، لكنهم عادوا الى انتعاش كبير بعد استقلال أوكرانيا. لم تتردد مجلة لوبوان الفرنسية في وضع العنوان التالي في العام 2019:”أوكرانيا، زيلينسكي رئيسٌ يهودي في بلاد المجازر….” وذلك مع انتخاب الممثل اليهودي Volodymyr Zelensky رئيساً.
علّق رئيس حاخامي أوكرانيا آنذاك على الأمر بالقول :” “انه تعبير عن نضج الأوكرانيين حيث رئيس البلاد يهودي ورئيس الحكومة من اصل يهودي “.
رغم العلاقة الممتازة بين بوتين ويهود روسيا، الا ان الاتهامات كثيرة انتشرت بين القوميين الروس ويهود أوكرانيا.
المعروف أيضا ان 30 ألف يهودي يحجون كل عام الى منطقة تبعد 200 كيلومتر جنوب كييف، لزيارة ضريح حاخام توفي في العام 1810 ويعتقد اليهود أنه كان صاحب عجائب كثيرة.
هل تريد موسكو فعلا اجتياح أوكرانيا؟
قالت روسيا عشرات المرّات إنها لا تريد اجتياح جارتها، وأن حشدَ قواتها عند الحدود مع أوكرانيا، ليس تعدّيا على أحد ذلك أن هذا جيشَها وهذه أرضها. لكن الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا قالتا عشرات المرات أيضا إن الاجتياح بات وشيكاً، وتكثّف هذا التحذير بعد المناورات العسكرية والنووية بين روسيا وجارتها بلاروسيا، وكذلك في أعقاب تصاعد التوترات والاشتباكات والتفجيرات التي طالت قلب دونيتسك وهي المنطقة التي يُسيطر عليها الانفصاليون الموالون لموسكو.
وقد سارع الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الى القول اليوم: إن التصريحات التحذيرية للقوى الغربية حول اجتياح روسي قريب لاوكرانيا قد يؤدي الى نتائج كارثية، وذلك فيما قيل إن الاتصال اليوم بين الرئيسين الروسي والفرنسي فلاديمير بوتين وإيمانويل ماكرون قد يكون الفرصة الأخيرة قبل تدهور الاوضاع لو حصل أي انزلاق عسكري.
الواقع ان موسكو لم تشأ الحرب، وكل ما تريده، هو الحصول على ضمانات أطلسية بعدم ضم أوكرانيا الى حلف شمال الأطلسي وبتخفيض وجود الحلف في الدول الشرقية المحاذية لها. وهي لذلك ضمّت جزيرة القرم بالقوة، وترفع شعار حماية أراضيها وعدم السماح بتمدد الأطلسي وتهديدها، وحماية الأقلية الروسية في تلك المنطقة.
ثمة من يقول إن الرئيس فلاديمير بوتين قام بمناورة ناجحة جدا ذلك أنه أحرج الأوروبيين والأميركيين، وهو يدفعهم دفعا للتفاوض على مستقبل الاحلاف العسكرية.
الواقع أن لا احد يريد الحرب، لكن ثمة من يحذر من الانزلاق اليها لو حصل خطأ، وبعد ان قال بايدن ان دخولا طفيفا للقوات الروسية يستدعي ردا طفيفا ، عادت الدول الأطلسية تطرح احتمالات المواجهة غير العسكرية ومنها مثلا اخراج روسيا من منظام سويفت للتحويلات المالية، وحرمانها من التعامل بالدولار، وعقوبات نفطية وغازية، وزيادة تسليح القوات الأوكرانية.
الأوروبيون باستثناء بريطانيا وبعض دول الشرق لا يسيرون خلف أميركا وهم منقسمون بشأن كيفية التعامل مع روسيا، فألمانيا وبولندا مثلا ستنزلقان الى أزمة فقدان غاز خانقة لا بل كارثية، ومن الصعب جدا قبولُهما بوقف خط نورث ستريم، والشتاء القارس لا يسمح بالتلاعب بهذه المسألة الحيوية.
ثم ان فرنسا الرئيسة الدورية للاتحاد الأوروبي حاليا ترغب باستكمال التفاوض مع بوتين تماما كالمستشار الجديد لألمانيا. والدولتان ستعملان على إعادة تفعيل اتفاق باريس حول النظام الأوروبي مع روسيا.
أما منطقة شرق أوروبا فهي تفضل أميركا وحلف الأطلسي، ولذلك نُلاحظ ان بعض هذه الدول بدأت بإرسال أسلحة ومعدات، وأما الدول الكبرى مثل أميركا وبريطانيا فهي قرّرت ارسال مساعدات عسكرية، وهو ما اعتبره المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف أمرا خطيرا للغاية
خلاصة القول:
بناء على كل ما تقدم يُطرح السؤال الآن، هل ناور بوتين ونجح كما تعترف الآن بعض وسائل الاعلام الأطلسية نفسها، أم ان ما فعله في القرم وجورجيا والشيشان وسورية، سيكرّره في أوكرانيا…
حتى الآن يبدو انه يرفع مستوى الضغط لكن دون استبعاد الحرب على الاقل لحماية مناطق الشرق الاوكراني عسكريا حتى لو اضطر للدخول بقوات أكبر ، فحين تُحشد قوات من الجانبين، لا شيء يمنع الانزلاق خصوصا اذا ما دخل طرفٌ ثالث وأجج الأوضاع بالشائعات والتصريحات الكاذبة، وقد كان لافتا تحذير الاتحاد الأوروبي من تسريب الكثير من المعلومات المُضلّلة بغية إثارة الحرب.
هي أيام حاسمة وخطيرة إذا، قبل أن نعرف وجهة الأمور صوب حرب محدود أو واسعة أو صفقة سياسية معقّدة جدا…
الأكيد ان الحرب ليست لمصلحة أحد، ولكن الأكيد أكثر هو أن بوتين سيقاتل بشراسة لوقف تمدّد الاطلسي الى جواره وقضمه أوكرانيا التي يقول دستورها انها ستنضم الى الحلف الغربي. لعلّ في ما يحصل تحوّل محتمل كبير لتوازن العالم أو انزلاقه الى الحرب، خصوصا أن الصين ساندت بقوة روسيا في معركتها الحالية. فما حصل في الايام الماضية يُنذر بأن تتحول اوكرانيا الى بؤرة حرب عسكرية حقيقية بين روسيا والاطلسي مهما كلّف الأمر، هي قضية مصير لروسيا تماما كما كانت سورية قضية قواعد في البحر الابيض المتوسط ومصالح كُبرى.. ليس بوتين من النوع الذي سيتراجع حتى لو اضطر لتحريك الدبابات والطائرات، وربما سيفعل قريبا.