الخامنئي عاشقُ العربية والجواهري وجبران والفنون
سامي كليب:
يروي مُرشدُ الثورة الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي في كتاب مذكّراته الغني والحامل عنوان ” إنّ مع الصبرِ نصراً” أسباب تعلّقه بالعربية لغةً وشعراً وأدباً، وعلاقته بالشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، وإعجابه بالأديب اللبناني جبران خليل جبران ومفكرّي الاخوان المسلمين والأدب العالمي وغيرهم، يروي كل ذلك بكثير من الشغف والعشق للغة الضاد حتى يقول:” أهتزُّ من الأعماق لسماع اللغة العربية”. ومن كتابه المذكور نفهم الكثير من المؤثرات الشخصية والنفسية على الرجل الذي يملك كل مفاتيح القرار الإيراني اليوم، والذي لا يعرف الكثير من العرب عنه حتى الآن سوى أدواره السياسية والأمنية، فينقسمون بين مؤيد وموالٍ من جهة ، ومعارض وناقد لتوسّع وخطورة الدور الإيراني عربيا.
فقر الطفولة
الفتى علي الخامنئي وُلد في أسرة فقيرة في مدينة مشهد في محافظة خراسان عام 1939 ، ويقول إن حذاءه الذي كان ينتعله للذهاب الى المدرسة كان مثقوباً فيدخُل منه الوحل في الشتاء، وإنه سكن مع أهله بداية في غرفتين، وإنه شاهد من الفقر في بيت والديه، ” ما قلّ أن يشاهدَ مثله عادة في بيوت العلماء” ( فوالده وجده كانا عالمين).
ونفهم من كتابه الغني بالذكريات والمعلومات والتحليل، أن الخامنئي كان يُعاني ضعف النظر ويفضّل الانزواء، كما عانى من سخرية الناس من عمامته (في عهد الشاه) التي وضعها على رأسه وهو في مقتبل الشباب، وأنه كان كوالدته يعشق العربية ويتمتع بصوت جميل يجوّد به القرآن الكريم في المنزل والمدرسة وعند استقبال الضيوف. لا شك أن كل ذلك أثر في ما بعد على شبابه وافكاره ومعتقداته، فمن تعلّم العربية على والدته، وتمتع بصوت جميل، لا بد أن يعشقها لاحقا وأن يؤيد الفنون الملتزمة. ومن كان منزويا في الطفولة ويشعر بعدائية من حوله، لا بُد أن يعوّض عن ذلك في الكبر. ومن قرأ وترجم كتب الأخوان المسلمين، لا بد أنه تأثر كثيرا بها حتى قال مع بداية ” الربيع العربي” : أن ما يحصل في مصر وتونس هو ” صحوة إسلامية جديدة”.
عشقُ العربية:
كتابُه :” إنّ مع الصبرِ نصراً” أملاه أصلاً باللغة العربية لا الفارسية، وهي لغةٌ ورثها عن أمّه العربية النشأة، حيث “رحل جدّها من اصفهان إلى النجف، وهو من اسرة الميردامادي المتوّطنة في نجف آباد من أعمال أصفهان، ولها فروع في النجف، ووالدها من العلماء الفضلاء، ولغته عربية”.
وبالرغم من اعتذاره في مستهل الكتاب عن مستوى لغته، الاّ أننا نجد في الاعتذار شيئا من المُغالاة في التواضع، ذلك أن الكتاب الذي راجعه د. محمد علي آذرشب، ومحمد مهدي شريعتمدار، وطبعه مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، غنيّ بالعبارات الجميلة، والانسياب في اللغة والمضمون، ويتضمن مفردات ربما لا يعرفها الكثير من العرب اليوم.
وفي كتابٍ آخر بعنوان ” الولّي المُجدِّد” لنائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم، نقرأ الكثير من أقوال الخامنئي بشأن الفن والموسيقى والمسرح والثقافة، حتى نكاد نسأل، هل فعلا أن الخامنئي المعروف بالتشدد الديني والاجتماعي والسياسي هو نفسه من يحمل كل هذه الأفكار بداخله، أم ان معرفتنا العربية بسياسته المثيرة لجدل كبير ولقلق عربي في عدد من الاقطار، حجبت عن الكثير الجوانب الأخرى بشخصيته التي تبدو غنيّة ومتنوّعة وأن ما يبرز عند بعض الموالين من رفض لعرض الفنون والمسرح والغناء يختلف عما في فكر ” الولي الفقيه” بسبب بيئات أكثر تشدداً ومحافظة.
اليكم بداية ما يقوله مُرشد الثورة عن اللغة العربية:
- في المدارس الابتدائية تعلّمت قواعد اللغة العربية من خلال كتاب ” جامع المقدمات”، وفي الحادية عشرة أو الثانية عشرة بدأت بدراسة علوم العربية بشكل جاد متواصل. كلّ أشقائي كانوا يشاركونني هذا الجوّ، غير أني كنتُ مولهاً باللغة العربية بشكل خاص.
- يعتريني شعور خاص حين أستمع الى اللغة العربية، وأهتزّ من الأعماق لسماعها. كنت دائما أحبّ لو عشتُ شطرا من أيام طفولتي في منطقة عربية.
- حين إقامتي في “قُمّ”، قرأنا بعض كتب جبران خليل جبران وترجمتُ آنذاك كتابَه ” دمعة وابتسامة”، ولا أزال أحتفظ بالترجمة، وهي أول أعمالي في النقل من العربية الى الفارسية.
- ترجمت بعد ذلك لمحمد قطب وسيد قطب، وكان أكثر ذلك داخل زنزانات السجون ومنها :” شبهات حول الإسلام”، و” المستقبل لهذا الدين” و” الإسلام ومشكلات الحضارة” و”ظلال القرآن” ، كنت متفاعلا مع الكتاب بشدّة وترجمته بكل مشاعري وأحاسيسي، وكنت أنفعلُ ببعض العبارات، فينتصبُ لها شعرُ بدني.
- كان انشدادي بشكل خاص الى كتابَي ” المُغني في النحو” و ” المطوّل في البلاغة”، كان قسم البديع في المطوّل من ألذّ الدروس اليّ… وأبو تمّام لم يبلغ شأنَه شاعرٌ حتى المتنبّي، والمتنبّي أخذ كثيراً من أبي تمّام، وقرأت كتاب ” الأغاني” بأجمعه، كما قرأتُ الموسوعات العربية الكبيرة في التاريخ وتاريخ الأدب وكتب الهوامش والملاحظات خلف كتاب كلّ كتاب.
الأدب والشعر والجواهري
يقول السيد الخامنئي في كتابه الشيّق هذا:” الأدب العربي المُعاصر لم يستهوني بأجمعه، بل وجدتُ في بعضه ما يُسيء الى الذوق العربي واللغة العربية، وأخصُّ بالذكر ذلك النموذج المتأثر بالآداب الأوروبية أسلوباً ومضموناً، إنه ليس بأدب عربي ولا أوروبي، إنه مسخٌ يلفظه كلُ طبع سليم وذوق جيد، ولذلك رحتُ أبحث عن ذلك الأدب الذي ينسجم مع ما نشأتُ عليه من تذوّق اللغة العربية، ويستند الى أصالة في اللغة والأسلوب، ولقد قرأتُ لكبار الكتّاب والشعراء المعاصرين والشاميين والعراقيين”.
يضيف مُرشد الثورة :” لقد وجدتُ ضالتي فيما وجدتُ في شعر الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، فهو يتمتع بالأصالة في التعبير العربي، بحكم نشأته الأدبية والدينية الأصيلة في عائلة الجواهري، وفي بيئة النجف الدينية الأدبية، ويمتازُ أيضا بتفاعل شعره مع آلام الجماهير وآمالها، كما أنه يتميّز بتسجيل مواقف شجاعة تحدّى فيها الحكّام الظالمين، وتعرّص بسببها للاعتقالات والسجون”.
ويتابع :” قبل عامين ( 1992) وقع في يدي كتابٌ للجواهري تحت عنوان ” ذكرياتي” فقرأته بشوق كبير، وأتيت على آخره خلال أيام قلائل على الرغم من زحمةِ الأعمال وتراكمها، وهمّشت على كثير من صفحاته، وكلّما وجدته يشير الى حادثة، أراجع الديوان لأرى كيف عبّر عنها في شعره”
يروي السيد الخامنئي كيف أن الجواهري أنشد قصيدة أمام المرحوم الشيخ محمد حسين كاشفِ الغطاء، وهذه القصيدة هزّت الشيخ من الأعماق، فلم يتمالك نفسه من فرط الإعجاب حتى صاح:” أنت والله متنبّي العصر” فأجابه الجواهري على الفور:” يا شيخنا كان المتنبّي شاعر سيف الدولة، وأنا شاعرُ سيف الإسلام” ويقصد بسيف الإسلام الشيخ نفسه.
وإذ ينتقد الخامنئي رغم اعجابه الشديد بالجواهري، ” غيابَ حقيقةِ رسالةِ الإسلام الثائرة عن فكره” مُبرّرا الأمر بإمكانية أن يكون الشاعر العراقي ” يتحدّث عن وعّاظ السلام الذين يحملون مهمة تخدير الناس”، يروي كيف دعاه الى إيران ، حيث ” بقي الجواهري مدة قابلني فيها وأبدى مشاعره الطيبة تجاهي وتجاه الجمهورية الإسلامية وقدّم لي كتابه ” ذكرياتي” مع أبيات شعره”
وفي هوامش الكتاب نقرأ ان الجواهري كتب للخامنئي 3 قصائد واحدة يقول فيها:
” سيدى أيها الأعز الأجلّ أنت ذو منّة وأنت المدلّ”
وفي الثانية:
“أبا الحسين تحيّاتٌ معطّرة في يوم عيد (غدير) رحتَ ترعاه
كان الولي (أمير المؤمنين) به واليوم أنت (ولي الأمر) مولاه.
الفن والثقافة
يقول الإمام الخامنئي:” تأثيرُ الشعر والرسم وسائر صنوف الفن والأصوات الجميلة والألحان اللطيفة- وهذه كلها فنون- يحصُل في ذهن المتلقّي من حيث لا يشعر. أي أنّ الفنّ يؤثر من دون أن يشعر المتلقّي بهذا التأثير. وهذا أفضل أنواع التأثير. استخدم رسول الإسلام الأدوات كافة، بما في ذلك أدوات الفن، لحمل هذه الأفكار، وذلك في أرقى الحلل وأفخرها أي القرآن. ومن أسرار موفقّية القرآن هو فنّه. القرآن هو ذروة الفن. لقد قلتُ مرارا إن لا حظّ لأي رسالة ودعوة وثورة وحضارة وثقافة من التأثير والانتشار والبقاء إذا لم يُطرح في شكل فنّي، ولا فرق في ذلك بين الدعوات المُحقّة والباطلة”
وأضاف:” إنّني أخاطب الأشخاص القادرين على إنجاز الأعمال الفنيّة المؤثرة الذين يجتهدون في تبليغ رسالتهم الفنيّة، أنّ من الضروري أن يستفيدوا من الأساليب الفنيّة الجيدة والتقنية الصالحة والمؤثرة في كافة الفروع والمجالات الفنيّة والأدبي”
وفي شرحه لهذه الفنون، يقول مُرشد الثورة :” إن الفنّ موهبةٌ إلهية، وحقيقة جد فاخرة، ومن الطبيعي أن يشعرَ الشخصُ الذي مُنحَ هذه الموهبة من قبل الله-ككل الثروات والكنوز الأخرى-بأعباء المسؤولية، أي أن العطايا الإلهية مصحوبة بأداء التكاليف، ليس الفن من الثروات التي تُستحصل كلها بكدّ اليمين وعرق الجبين، فما لم تتوفر فيكم القريحة والموهبة الفنية ستبقون تراوحون في الخطوة الأولى مهما بذلتم من جهد “
وعن الموسيقى يقول:” أما فيما يتعلّق بالموسيقى والغناء، فعليَّ أن أعترفَ بأننا لم نقدّم حتى الآن جوابا واضحا وكاملا بشأن هذه المسألة. في السابق كنا نعتقد- ولا زلت على هذا الرأي- بأن الموسيقى المخصّصة والمختصّة بمجالس اللهو محرّمة، وكنا آنذاك نتصور أن الموسيقى الغنائية مختصّة بمجالس اللهو، ولكن ما هو حُكم الأدوات الحماسية أو طريقة ” أبي عطا” أو ” همايون” وأمثالهما؟ إن جميع الحناجر الإنشادية يُخرجون أنغاما تنطبق مع هذه الأجهزة (الإيقاعات) الاثني عشر، إذا، فهذه ليست محرّمة، والموسيقى ليست سوى هذه الانغام والإيقاعات والأطوار، بناءً عليه، فهي ليست محرّمة الاّ اذا داخّلها شيءٌ مُحرّم”.
الثقافة أهم من السياسة
اللافت في ما كتب الخامنئي هو أولوية الثقافة في وجدانه ومجتمعه، فيقول :” ان الثقافة هي هوية أي شعب، القيِم الثقافية هي روح الشعب ومعناه الحقيقي، كلّ شيء مرتبط بالثقافة. الثقافة ليست هامشا للاقتصاد وتابعة له، ليست هامشا للسياسة وتابعة لها، بل إن الاقتصاد والسياسة هما تابعان للثقافة وهامشان لها”
يختلف البعض مع سياسة إيران اليوم والتي يقودها السيد الخامنئي، ويقلقون من أدوارها في بعض المحيط العربي، وقد يكونون في بعض قلقهم محقّين، وذلك فيما يقول البعض الآخر من الموالين، إنه لولا إيران لما استطاعوا مواجهة إسرائيل والدفاع عن فلسطين وقد يكونون محقّين أيضا….. كل طرف له مبرراته، لكن الأكيد أن ما يقوله مُرشد الثورة الإسلامية عن اللغة العربية، ما عدنا، للأسف، نجده عند الكثير من العرب حيث بات بعضهم يخجل من لغة الضاد ويؤثر عليها لغات أخرى. واذا كان في كتابه رغبة في ” دعاية عربية لسياسة إيرانية” كما يقول بعض المعارضين، فليكن الرد إذاً بشيء مثله لجهة التعلق بلغةٍ تكاد تضيع كما ضاع الكثير من تاريخنا وثقافتنا وحضارتنا.
ولمعرفة المزيد عن المرشد الخامنئي، سيكون من المهم قراءة هذه الكتب الثلاثة:
” إن مع الصبر نصرا” و ” الوليّ المجدّد” و ” الفن والأدب في التصوّر الإسلامي”.