ثقافة ومنوعات

الثّراء النّفسي، يمنحنا السعادة! كيف؟

روزيت الفار-عمّان 

ما هو هذا الثّراء النّفسي أو ما يُسمى بالانكليزية Psychological Richness؟ كيف يمكنه أن يجعل الحياة جديرة بالعيش؟ وهل صحيح أن قسوة الحياة وتحدّياتها يمكنها صنع إنسان سعيد؟

إنّ مفهوم “الحياة الجيّدة أو الهانئة” The Good Life مفهوم تناوله أدب وفلسفة الثّقافات القديمة منذ القدم وتباينوا في آرائهم حول ما يجعل الإنسان يشعر بالسّعادة وأثبتوا أنّه مفهوم معقّد غير مطلق لا يصلح لأن يخضع لأيّ نظريّات أو قواعد طالما أنّه يمسّ حياة البشر الّتي تتميّز بالنّمو والتّغيير الدّائمين، وإنّ التّغيّر هو القاعدة الوحيدة الثّابتة في مسيرة الحياة. غير أنّهم اتّفقوا على أنّ أسباب جعلها جديرة بالعيش يأتي إمّا من خلال تحقيق:

  1. السّعادة الملموسة Hedonic، وهي الوفرة بالمُتع واللذّات الحسيّة من سلطة ومال والرّوابط الأسريّة المتينة والاستقرار بالعمل وجميع مشاعر البهجة والرّضى بعيداً عن كل التّهديدات. وأنّها تختلف بأولويّاتها حسب الأشخاص.
  2. السّعادة المتحقّقة من الحياة ذات المعنى والهدف Meaningful or Purposeful Lifeوتحمل مفهوم نكران الذّات من أجل خدمة الغير. وتعتمد  في مبدئها على الفضيلة والقِيَم المقدّسة والشّعور بواجب التّضحية، وصولاً لإحداث تغيير أو فرق في الحياة. أي أن يكون لك قضيّة إنسانيّة تعمل على تحقيقها، وهي ما يُسمّى Eudaimonia ويتمُّ ذلك عبر معرفتك لأعلى مستويات طاقاتك ومقدراتك وتسخيرها لذلك العمل المجدي والمفيد والّذي يولّد لديك شعوراً أقوى بالسّعادة. وردت هذه المفاهيم في أدبيّات الإغريق تحت عنوان “أخلاق نيكوماكيان” وهذا الاسم الشّهير الّذي أُعطي لمجموعة أعمال آرسطو في الأخلاق. نستطيع أن نعطي مثلاً على ذلك فيما قامت به الأم تريزا أثناء حياتها. من أقوالها: “نمتُ فحلمتُ أنّ الحياة سعادة. صحوتُ؛ فوجدتُ الحياة خدمة. خدمتُ؛ فوجدتُ الخدمة سعادة”.
  3. أمّا البُعد الجدليّ الثّالث والغريب الّذي يتعدّى السّعادة الماديّة وحياة الفضيلة -والّذي يعتبره علم النّفس ذا أهميّة خاصّة لكن لم يتم التّركيز عليه- هو ما يُطلق عليه اسم”الثّراء السّيكولوجي أو النّفسي” والّذي أصبح الآن يحظى باهتمام الباحثين في علم النّفس والفلسفة أكثر من أي وقت مضى.فما هوهذا البُعد وما سبب أهميّته؟

في مقالة للبروفيسور سكوت باري هوفمن نشرته مجلّة Scientific American في آب 2020، تمَّ التّأكيد مجدّداً، حسب أستاذ علم النّفس الشّهير مارتن بوبر، على عدم وجود نظريّات أو قواعد مطلقة للعيش كون النّمو والتّغيّر يُعتبران أساس استمراريّة الحياة؛ الأمر الّذي يثير بل يحتّم الفضول والانفتاح على التّجارب والاكتشاف والمغامرة بالإضافة للتجارب المثيرة المدهشة، والّذين يشملون بأحيان كثيرة تحدّيات قاسية وتجارب خشنة وصعبة. تكون بعض هذه التّجارب “اختياريّة” نجد فيها فائدة ومتعة؛ كالسّفر للدّراسة بالخارج وكسب ثقافة البلد الجديد وعاداته، وأخرى “قسريّة” كارثيّة ومؤلمة، كتجربة الحروب والأوبئة أو السّجن أو النّفي أو الأمراض الخبيثة أو حالات العقم أوعدم توفّر عمل وما شابه ذلك؛ تشكّل في مجموعها خصائص “الثّراء السّيكولوجي”. بمعنى آخر؛ هو الثّراء الّذي يأتي نتيجة لمثل هذه التّجارب المبتكرة المثيرة والمعقّدة الّتي تأخذك إلى مكان آخر وتعمل على تغيير مفاهيمك نحو الحياة ونظرتك للأمور وتخلق منك إنساناً مختلفاً عمّا كنت عليه. لكن، وبالرّغم من تنوّع هذه التّجارب وقسوتها؛ غير أنّها تمنحك حكمة وغنى وقيمة للحياة في صقلها لفهمك لذاتك أوّلاً ثُمَّ للعالم من حولك، فتصبح أقدر على معرفة ذاتك والآخر ممّا يقودك لتقبّله وخلق تفاعلات إيجابيّة معه، ما يمنحك شعوراً بالسّعادة والرّضى …

ويشير الكاتب الى أنّه ليس بالضّرورة أن تنفصل هذه المناحي الثّلاثة عن بعضها. فقد تجد إنساناً ينعم بسعادة ماديّة وملذّات الحياة الملموسة ولديه حسٌّ بتجاوز الذّات ومساعدة الغير وبنفس الوقت يخوض تجارب صعبة ومؤلمة بحياته. وفي دراسة حديثة أجريت في 9 دول مختلفة لعدد كبير من الأشخاص تمَّ سؤالهم: أيِّ من هذه المناحي يفضّلون، فكانت الإجابات تفيد بأنّ من 50-70% منهم اختاروا السّعادة الماديّة الملموسة، وذهب ما نسبته  15-38% إلى الخيار الثاني أي الحياة ذات المعنى والهدف، أمّا الأخير فلم يحظ سوى ب7-16% وكان بألمانيا.

بالنّهاية؛ لا يوجد مسار واحد مُعتمد لحياة هانئة بل علينا أن نغوص في دواخلنا لنعرفها تماماً ونختار ما يناسبها، ولنعلم أنّه لا يمكننا أخذ كل شيء بيسر وسهولة في حياة تعمّها الفوضى وعدم الّنظام. فتبقى السعادة بنهاية المطاف خياراً.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button