الندمُ يُغلقُ القلبَ ولا يُشفيه.
سامي كليب
كانت لينا مُضطربةُ في تلك الليلة دون أن تعرفَ لاضطرابها سبباً. استلقت على السرير بحثاً عن نومٍ يُريحُها ممّا هي فيه، لكن النومَ لا يأتي في هكذا حال. وما هي فيه لا تعرف عنه شيئا ملموساً، هو مجرّد شعور كئيب اجتاح قلبها منذ ساعات لم تستطع تحديد هويته بالضبط. كلُّ شيء في حياتها يسير على نحوٍ جيد، وكلُّ من تخشى عليهم ما زالوا في صحة وأوضاع جيدة، وعملُها يتقدّم بأسرع مما توقّعت وخطّطت، وهي لا تعاني من أي اضطرابات هرمونية. لكن ذاك الشعور بالكآبة تسلل فجأة الى كل خلايا القلب والدماغ، حتى كاد يشلّ كلَّ ما عداه. شَعَرَت بأن الكونَ فارغ، وأن روحَها عارية، وأن كلّ ما فعلته في هذه الحياة الدُنيا لا قيمةَ له.تمنّت لو ترحل الى مكان بعيد، بعيدٍ عن كل شيء وعن كل الناس، فلا يعرف أحدٌّ اين هي وماذا تفعل.
أطفأت كل أنوار غرفتها. لم يبق من النور الاّ ذاك الضوء الخافت المنبعث من العُلبة الالكترونية قرب السرير والتي تنبعث منها في أيام راحة البال موسيقى ناعمة، أو حالمة، أو كلاسيكية، أو صاخبة تُناسب المقام، أو تستخدمها لشحن الهاتف، أو كمنبّهٍ صباحي. وكان نورٌ خافتٌ آخر يتراقص مقابل السرير، مُنبئاً بوصول الشمعة الزرقاء الى آخرِ رمقٍ من حياتها. كلّ شيء في الغرفة أزرق يعكسُ نورَه على المكان، بما في ذلك على إطار صورةِ والديها الواقفة خلف الشمعة. اعتادت أن تنظرَ كل ليلة الى الصورة، ثم تنظر الى الله كي يرحمَهُما، وتأسف أنها لم تقُلْ لهما كلّ الحبّ الذي في قلبِها.
تقلّبت على السرير مراتٍ عديدة. فتحت هاتفَها مراتٍ أكثر، راحت تقرأ آخرَ ما ينشُرُه الأصدقاءُ والغرباء على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي لكن دون أي اهتمام فعلي، وبلا ردة فعلٍ واحدة. أعادت الهاتفَ الى شريطِ شحنِه، كاد كأسُ الماءِ قربَ الشاحنِ يَنزلِقُ على الأرض لو لم تسارع الى التقاطِه بعد أن سقط جزءٌ من الماء فيه على يدها.” اسم الصليب” قالت على وقع ارتفاع نبض قلبِها. وقع بعضُ الماء على كتاب ” قواعد العشق الأربعون”. أشعلتِ الضوء مُجدّدا، مسحت الماء عن غلافه، وضعت أريكةً خلف ظهرها، واستأنفتِ قراءة رحلةِ شمس التبريزي للقاء جلال الدين الرومي.
بعد أن قرأت ثلاثَ صفحاتٍ تنبّهت الى أنها لم تلتقط شيئاً مما قرأت، رغم أنها قرأت كل صفحة مرّتين. كانت عيناها فقط تنتقلان من كلمة الى أخرى ومن سطر الى ما بعدَه، دون أن تفقهَ شيئا. غالبا ما يترافق شعورُ الكآبة غيرُ المُبرّرِ، مع تفكّكِ منظومةِ العقل والروح والقلب والجسد، وكأنَّ كلَّ عُنصرٍ من عناصر الإنسان، يعمل باتجاهٍ معاكس للآخر، فينتقلُ المرءُ من حالةِ الانسجام الى أوركسترا فوضوية، كلّ آلة فيها تعزف لحناً مختلفاً عن الآخر.
أقفلت الكتابَ، أطفأت الأنوارَ واحتضنتِ الوسادة. حاولت، لكنها لم تُفلح. لا مجال للنوم ولا للتفكير السليم. أخذت الهاتف واتصلت بصديقتها كارمن.
+ “اعذريني حبيبتي على هذا الاتصال المتأخر، لكني بحاجة للحديث اليك، أشعر بشيء غريب لا أعرف ما هو، لكنه ثقيل الوطأة، وجاثمٌ على صدري”. ثم صمتت كمن يهمُّ بالبكاء.
+ هل السبب نبيل؟
+ لا، أو على الأرجح لا أدري، قد يكون واحدا من الأسباب. ليس له علاقة مُباشرة، لكن ربما له علاقة ما، نبيل جيد وقد يكون أجمل من عرفت روحا وقلبا، لكني مُربكةٌ ومتناثرةٌ وأحاول أن ألملِم ذاتي قبل أن أٌقدمَ معه على أي خطوة. شعوري الليلة مختلف يا كارمِن، أشعر بالكآبة أو بشيء آخر، لا أدري. أشعر أن دموعي ستنهمر من حلقي وليس من عيني…
+ أتريدينني أن آتي الآن
+ أتمنى، لكني أعرف أنك غيرُ قادرة على ذلك، أريد فقط أن نتحدّثَ قليلاً ثم سأحاول النوم، فلديّ مواعيد باكرة غداً. ليتني لا أعمل هذه الأيام.
+ حسناً، أخبريني بما تشعرين بالضبط؟
+ هل شعرتِ يا كارمن قبل اليوم بندمٍ شديد؟
+ أعتقد أن كل إنسان يشعر بالندم، لكن هناك نِسَبا وأنواعا، فمثلا أنا أندم حين أعامل شخصا بشكلٍ جيد ومحترم وببعض المحبة، فيبادلني ذلك بتصرّف أحمق أو غبي أو قليل الاحترام أو يخترع مبرّرات واهية، بينما كان يستطيع أن يقول الأشياء بشفافية وأخلاق وصراحة. ولذلك وضعتُ فوق مكتبي اللوحة التي تعرفينها وفيها بيت من قصيدة المتنبي: ” وإذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ مَلَكتَه/ وأن انت أكرمتَ اللئيمَ تمرّد”، فمثل هذا يتصرف من خلال عقدةِ نقص أو ربما أكثر من عقدة، وكما قال المتنبي نفسُه:” لكلّ امرءٍ من دهره ما تعوّدا”.
+ لا أدري لماذا أضحك كُلما سمعتُك تتحدثين بهذه اللغة الفُصحى وتحفظين كل هذه القصائد. لا شعرُك الأشقر ولا عيناك الخضراوان ولا أي شيء فيك يوحي بأنك عربية.
لم تكن لينا بحاجة لكثير من الكلام في تلك الليلة كي تهدأ كآبتُها قليلا. أو لعلّ كارمن قالت لها بالضبط ما تُريد أن تسمعه. غالبا ما يكون الأشخاص المتفائلون المرِحون مثلها قد تدرّبوا على تسطيحِ أو تسخيفِ أو تهميشِ كلّ المشاكل أو أيجاد حلول واحتمالات حلول لها. لذلك تكون كآبتُهم أعمق، لكنها دائما أقصر من كآبة المعتادين على الكآبة واليأس.
الندمُ شعورٌ إنساني دائم، لكن ثمةَ من يَغرقونَ به فيقتلون قلوبَهم ويقفلونها، وآخرون يمرّون به مروراً عابراً كي يغسلوا القلوب، وقسمُ ثالث، ينجحُ في أن يرميَه في زاويةٍ منسيةٍ تماماً في الدماغ، ونادراً ما تُفتح.
والندمُ هو النظرُ الى الماضي بعين الحاضر، لذلك غالبا ما يكون الحُكم عليه غيرَ عادلٍ. فحينَ يُحبُّ المرءُ، يكون في لحظة الحبِّ تلك مُستعِدّاً لفتح قلبِه الى المحبوب ولا يرى منه أي عيوب، ولو رآها يتفاداها، لأن الحبَّ يغسل الخطايا في أثناء جريانه كنهرِ صافٍ، ثم تطفو الخطايا على وجه الماء حين يتعكّرُ الحبُّ كما تتعكّرُ المياه. فكيف نُحاكمُ لحظةَ الحبّ الماضية بعين الحاضر القاسية؟
يقول الأديب الفرنسي أونوري دو بالزاك:” إنَّ الندَمَ هو فضيلةُ الضعفاء”، قد نندم على شخص أعطيناه كلّ القلبِ فلم يكن جديرا بالحفاظ عليه، أو على شخصٍ اعتقدناه صديقاً فنَحرَ الصداقةَ على مذبحِ المصلحة والأنانية والحسد، أو على عملٍ قُمنا به بدافع الرغبة أو الشهوة أو المصلحة فشعرنا بدونيتنا بعد تحقيقِه. كلُّ هذا جائز، لكن الندمَ قد لا يستحقّ التفكيرَ به في مرّات كثيرة، أو وكما قال الشاعر الفرنسي السابق ألفرد بيلافوان ” إن الندمَ مثلُ السوسةِ التي تنخُرُ الروحَ دون أن تدمّرها” ولذلك يعيش النادم حالة الشعور بالذنب، بدلا من التعلّم من أخطاء الماضي وأخذ العِبَر والانتقال الى المُستقبل .
لكن ثمة أنواعا أخرى من الندم، تتُرك جروحا في القلب وندوباً في الضمير، ومهما سعى الانسان لطمسها، تنبُت من جديد، كمثل من قَتلَ روحا ، أو أساء الى والديه، أو الى يتيم أو فقير أو ضعيف. هذا النوع من الندم لا ينتمي أبدا الى الماضي، هو يرافق الحاضرَ والمستقبلَ، ويطرُقُ على بابِ الضميرِ كلّ ليلة، ويلازم الروح في كلِّ تفاصيلِها. وهو بالضبط ذاك الذي وصفه الأديب الفرنسي الشهير فرانسوا مورياك قائلا:” إن النَدَم هو صرخة الله أمام خطيئة مخلوقاته”
تذكَّرَت لينا كلامَ نبيل في آخر اتصال بينهما. قال بلهجته الواثقة دائما والمفعمة بالمحبة:” يجب أن نُعَوِّدَ دماغَنا يا لينا على أن نتحكّم به، لا أن يتحكّم بنا، فنحن لا نعرفُ الكثيرَ عن أسرارِ هذه الآلة في رأسنا التي تملك 100 مليار خلية وتتحكّم بكل شيء. ولذلك علينا أن نقرّر ماذا نضع في كل عُلبةٍ منه، ومتى نفتح عُلبةً ونغلقُ غيرَها. لو عوّدنا أنفسَنا على الفرح سيُعطي الدماغُ أوامرَ الفرح، ولو عوّدناه على اليأس، سيُلبّي طَلَبَنا، ولو ملأنا العُلبَ بالندم، سيفتحها حين يشاء لا حين نُريد”.
تذكّرت لينا كلّ ذلك قبل أن تنام ، ولعلّها الليلة بالضبط، نَدِمت على آخر ما قالته لنبيل الذي تعامل معها منذ تعارفا بكلِّ ما يُشبه اسمَه من النُبل والمحبة والأخلاق. فهي في قرارةِ نفسها تُدرك أن عند نبيل كلّ ما يُسعدها في الحياة، وأن ثمة رابطا روحيا جمعهما، اقوى من أي رابط آخر، وتعرف في قرارة نفسها أن طريقيهما تقاطعا لأن ثمة سببا خفيّا جعلهما يتقاطعان. وهي تخشى أن تنغمسَ أكثر وتخشى الهروب فتندم.
تُدركُ لينا أن نبيل يعرف ما بها ويُدركُ أسباب انفعالاتها، لعلّها لذلك قالت له تلك الجملة غير المتوافقة مع شعورها في آخر مكالمة بينهما. لكنها الليلة بالضبط حائرةٌ بين الندم والرغبة بأن تفتح الهاتف في هذه الساعة المتأخرة، وتقول له:” ما رأيك أن نلتقي غدا، لأن لدي ما أقوله لك، ولأني اشتقت لك”.
فكيف سيكون ردّ نبيل …………..لا شك أنه سيُفاجئها كالمعتاد، لكن كيف ؟
(البقيّة تأتي)
من كتاب: تأمُلاتٌ من على شُرفةِ الدهر