منذ الهجوم البري الذي شُنّ غداة عملية حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أخذت إسرائيل تُدمّر الأرض ببطء لكن بانتظام. لم تعد مدينة غزّة، القلب الديمغرافي، مجرّد هدف عسكري، بل أصبحت رهانًا استراتيجيًا ورمزيًا. سقوطها يعني نهاية كيان فلسطيني موحّد، ويمثّل مرحلة حاسمة في مشروع أوسع للتجزئة الجغرافية والسياسية. فإلى جانب المعارك المرئية، هناك حرب أخرى تدور: حرب الخرائط. لقد قُسّمت غزّة وعُزلت وقُطّعت بممرّات عسكرية ومناطق محظورة و«مناطق موت». هذا التشريح القاسي لا يهدف إلى تقسيم الأرض تمهيدًا لتقاسمها – كما هو الحال في الضفّة الغربية – بل إلى جعل أي إعادة إعمار مستحيلة، تمهيدًا لطرد دائم لسكانها. هذا ما تذكّرنا به إنصاف رزاقي، دكتورة في القانون الدولي، في فقرة «وجهاً لوجه» لهذا الأسبوع.
إن حصار مدينة غزة ليس غاية في ذاته، بل مرحلة ضمن منطق نزع الملكية المستدامة، قد تليه ضمّ فعلي للمناطق المتبقية. أمّا رفح، في الجنوب، فقد تتحوّل إلى «لا-مكان»، جيب خارج الزمن، يُجبر فيه مئات الآلاف من المدنيين على العيش بلا حقوق ولا وضع قانوني ولا عودة. لم يعد الخطر مجرّد حرب: إنّه خطر محو مُخطط، عبر الإبادة الجارية.
من جهتها، حسمت الأمم المتحدة مؤخرًا: المجاعة تضرب غزة. هذه الكلمة، التي طالما جرى تجنّبها، باتت تُستخدم رسميًا الآن. ووفق تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، يعاني آلاف الأطفال من سوء تغذية حاد، بينما لا تزال قوافل الإغاثة عالقة على المعابر. أما القصف، فلا يعرف تباطؤًا. في هذه الديستوبيا المفتوحة، تختفي حتى آخر مساحات التنفّس. ومن بينها البحر: شاطئ غزة، الذي طالما اعتُبر مكانًا للهروب واللعب والسباحة والحرية، أصبح اليوم محظورًا. تحت السيطرة العسكرية، محاصر، خطير، وهو صورة عن كامل الإقليم: مُحاصر، ممنوع. في ملف هذا الأسبوع، نعود إلى هذه الخسارة الخفية لكنها جوهرية: البحر، آخر مرآة للّامحدود، وقد أُغلق كالباب.
تُضاف إلى ذلك أزمة صحية غير مسبوقة. فمستشفى ناصر في خان يونس، الذي تعرّض للقصف أواخر آب/أغسطس، ليس حالة معزولة. أكثر من 36 مستشفى ومرفق صحي تعرّضت للقصف منذ بداية الحرب، وفق منظمة الصحة العالمية. الطواقم الطبية المنهكة تعمل بلا كهرباء، بلا مواد تخدير، بلا مياه صالحة للشرب. تُجرى عمليات قيصرية بمصابيح الرأس، وتُجرى جراحات للمصابين من دون تخدير. أصبحت ممارسة الطب فعل بقاء، وأحيانًا مجرّد مرافقة نحو الموت.
على الجبهة الدبلوماسية، التناقض صارخ. بينما تُطلق المنظمات غير الحكومية صيحات الإنذار، وتجمع المؤسسات الدولية الأدلة على الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني، تواصل غالبية الدول الغربية التحفّظ. المحكمة الجنائية الدولية كانت قد تجاوزت عتبة تاريخية بإصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. قرار نادر وغير مسبوق بحق رئيس حكومة من المعسكر الغربي. ومع ذلك، بقيت ردود الفعل خجولة. الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، كايا كالاس، أكدت أنّ الدول الأعضاء ستكون ملزمة قانونيًا باعتقال نتنياهو إذا وطئت قدماه أراضيها – لكن فعليًا، لم يُعلن عن أي عقوبات، ولا تجميد أصول، ولا استدعاء سفراء. القانون قيل، لكن بلا مضمون.
تلعب وسائل الإعلام دورًا محوريًا في هذا الصراع. ومع ذلك، ومنذ شهور، تُشنّ حملة منهجية لإسكات الصحفيين على الأرض. الغارة الإسرائيلية التي استهدفت الطابق الرابع من مستشفى ناصر في 25 آب/أغسطس أودت بحياة 15 شخصًا، بينهم أربعة صحفيين – من بينهم مريم دقّة، المصوّرة الحرة لدى وكالة أسوشيتد برس، التي قُتلت بينما كانت توثّق المجاعة وبؤس الأطفال في المستشفى. يضاف هذا إلى حصيلة مروّعة: أكثر من 200 صحفي فلسطيني قُتلوا منذ بداية الصراع، بحسب مصادر متعدّدة. قبلها بأسابيع، في 10 آب/أغسطس، أودى قصف آخر بحياة أربعة صحفيين من الجزيرة – أنس الشريف، محمد قريقع، إبراهيم زاهر، ومحمد نوفل – إضافة إلى اثنين مستقلّين – مؤمن عليوة ومحمد الخالدي – قُتلوا في هجوم على خيمة صحفية قرب مستشفى الشفاء. مجزرة أثارت موجة استنكار دولي، من الأمم المتحدة إلى قادة الدول الأوروبية، وأعادت طرح أسئلة حول حرية الصحافة، والإفلات من العقاب، وحماية القانون الإنساني. هذه الاغتيالات تأتي ضمن استراتيجية: إسكات الشهود، محو السرديات، ودفن الحقيقة.
حتى داخل إسرائيل، بدأ الإجماع حول الحرب يتصدّع. فمنذ أشهر، تهزّ مظاهرات حاشدة تل أبيب وحيفا والقدس، تندّد ليس فقط بإدارة الحرب العسكرية، بل أكثر بالانزلاقات السلطوية لنتنياهو، وتحالفه مع اليمين المتطرّف الديني، وسعيه لتقويض المحكمة العليا وإصلاحاته القضائية التي وُصفت بأنها قمعية. ملف هذا الأسبوع يسلّط الضوء أيضًا على الرافضين للخدمة في هذه الحرب. «الرافوزنيك» – وهم المعترضون الضميريّون الإسرائيليون الذين يرفضون الانخراط في جيش الاحتلال – يتزايد عددهم. وقد أجرينا حوارًا مع أحدهم. بالتوازي، يتنامى ظاهرة قلّما يجري تناولها إعلاميًا: مغادرة عدد متزايد من الإسرائيليين للبلاد. هجرة اقتصادية، رفض أيديولوجي، خوف من الحرب أو فقدان الثقة بالمستقبل: الدوافع متعدّدة، لكن الاتجاه واضح. نزيف ديمغرافي بطيء لكن مستمر، يمثّل نقطة تحوّل.
وفي قلب الصيف، وسط لامبالاة شبه عامة، صوّت الكنيست أيضًا على سلسلة من الإجراءات لتسهيل توسيع المستوطنات في الضفة الغربية. هذا الإقليم، المتميّز قانونيًا عن غزة، هو بدوره هدف لسياسة قضم منهجية. وفق عدّة منظمات إسرائيلية مثل «بتسيلم» و«يش دين»، لم يحظَ المستوطنون يومًا بقدر مماثل من الحرية أو الحماية العسكرية. هناك أيضًا تتضاعف أعمال العنف: تهجير القرى الفلسطينية، تدمير البيوت، الاعتقالات التعسفية، الاغتيالات. لكنها حرب صامتة، تجري بعيدًا عن الكاميرات. وهي مع ذلك غير منفصلة عن البقية: فهي تعبّر عن إرادة ضمّ كامل الأراضي الفلسطينية، بالقوة أو بالقانون.
رغم الرعب، لا تزال غزة تقاوم. وسط الأنقاض، تنظّم جمعيات محلية دروسًا للأطفال، دعمًا نفسيًا، وتوزيع مساعدات. فنانون فلسطينيون يطلقون نداءات دولية، كتّاب وشعراء يشهدون في الصحف العالمية. الإبداع، الأمل، الكرامة، تتجلّى في الغناء والرسم والأدب، رغم الخوف والموت. وفي بقية العالم، نهضت موجة تضامن هائلة، قلبت أحيانًا الرأي العام. شهدت العواصم الأوروبية والأميركية واللاتينية والآسيوية مظاهرات ضخمة. مثقفون ومسؤولون سياسيون ومواطنون عاديون يطالبون برفع الحصار فورًا عن غزة، والاعتراف بدولة فلسطينية. هذه التعبئة العالمية تذكير أساسي: فلسطين ليست خريطة ولا نزاعًا فقط. إنها قضية إنسانية، مسألة أخلاقية، نداء للعدالة. هذه الحرب ليست مجرد صواريخ وحصيلة قتلى. هي أيضًا حرب سرديات: ما نراه، وما نختار أن نصدّقه، وما نقبل أو نرفض سماعه. ما نسمح بمحوِه. وقبل كل شيء: ما نختار أن نواكبه، أن نندّده، أن نغيّره. أمام العنف، الصمت ليس خيارًا. والتاريخ سيحكم على خياراتنا.
La pompe de terre : une invention qui fit jaillir l’eau de l’histoire Nadine Sayegh-Paris…
سامي كليب مشكورة الدول التي اعترفت وتعترف بالدولة الفلسطينية، فهذا حقٌ فلسطيني طال انتظاره، وأن…
سامي كليب ثمة مؤتمراتٌ تدفع إلى الملل من لحظاتِها الأولى،…
Le sang, cette mosaïque invisible qui coule dans nos veines ! Nadine Sayegh-Paris De l’Antiquité aux…
عن دراسة بعنوان : تزييف التاريخ: السياسة البغيضة لإحصاء ضحايا غزة ريتشارد هيل وجدعون بوليا*…
نجاي ديوب-داكار سجّلت القارة الأفريقية خلال النصف الأول من عام 2025 أسرع معدل نمو في…