ترامب-نتنياهو بعد سايكس-بيكو، فهل من مشروع عربي؟

سامي كليب
لم يخف بنيامين نتنياهو يومًا أطماعه. عرضها بالتفصيل في كتابه “مكان بين الأمم”. قالها بصراحة الموقِن بأنّ لا شيء سيوقف مشروعه. ومختصر هذا المشروع أنَّ لا دولة فلسطينية، وأن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل اليهودية، وأنّ الأردن هو الوطن البديل، وان العالم العربي يتسّع لكل المهجّرين من فلسطين، وأنّ لا شيء غير القوّة ينفع للقضاء على كل من تسوّله نفسه بالمقاومة. وإذا كانت اتفاقيات السلام مع العرب تخدم هذه الأطماع فهو يذهب باتجاهها، أمّا إذا كان العرب سيوظّفون اتفاقات التطبيع لإقامة دولة فلسطينية، فهو سينكث بكل الاتفاقات.
ولو قصّر نتنياهو، لسبب ما، في فرض مشروعه للشرق الأوسط بالقوّة، فهو سيجد الولايات المتحدة الأميركية الى جانبه، وكثيرًا من الدول الغربية، ولن يجد معارضة حقيقية من المحور الشرقي بقيادة الصين وروسيا، حتّى ولو أنّ الدولتين تجاهران بأن إقامة دولة فلسطينية الى جانب دولة إسرائيل هو السبيل الوحيد للسلام. لا بل أن إدارة دونالد ترامب ذهبت أبعد ممّا توقّع نتنياهو نفسه، فطالبت بتهجير الفلسطينيين الى مصر والأردن، وذلك بعد أن ضيّقت على الفلسطينيين كلَّ السبل للحياة، بما في ذلك الغاء منظمة الاونروا، واعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبسيطرة الاحتلال على الجولان، وهي ماضية للاعتراف بضم الضفة الغربية.
ولو ذهبنا الى الدول الإقليميّة، سنجد تركيا تجاهر برفض ما تفعله إسرائيل وتوقف التبادل التجاري، لكن في جوهر الأمر لم تؤثر أنقرة ولا قيد أنملة في وقف الإبادة ولا في لجم مشروع نتنياهو، ولا استطاعت منع تمدّد الاحتلال الإسرائيلي صوب سورية التي من المُفترض أنهَّا باتت وفي جزء كبير من شؤونها السياسية والأمنية برعاية الرئيس رجب طيب أردوغان العرّاب الأول للقيادة السورية الجديدة.
أمّا إيران فقد انكفأت شرّ انكفاء، ولم تستطع لجم نتنياهو عن محاولة إبادة حلفائها، وعن قتل أبرز قادة المحور بدءا بالرئيس إبراهيم رئيسي، مرورًا بقائد حماس إسماعيل هنيّة في قلب طهران، وصولا إلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وخليفته المفترض السيّد هاشم صفيّ الدين، وذهبت للتفاوض مع الراعي الأول لمن قتل حلفائها، لا بل لمن قتل أبرز قادتها الجنرال قاسم سليماني، وسوف تضطر لتقديم تنازلات جوهرية بشأن برنامجها النووي ودورها في المنطقة إذا قبلت الاستمرار بالمفاوضات حتّى الوصول الى نتائج تحتاجها للنهوض باقتصادها ورفع العقوبات.
شكّل سقوط نظام بشّار الأسد ضربة قاضية للمحور بقيادة إيران بعد نجاح إسرائيل في قتل السيد نصرالله، ولم يبق من هذا المحور الذي رفع شعار مساندة غزة، سوى بعض الصواريخ الحوثيّة المستفيدة من الجغرافيا الصعبة لليمن والعصيّة على الضربات القاضية … ، وها هو نتنياهو يعيد فرض شروطه على حماس والفصائل من جهة، ويحوّل الحرب ضد حزب الله من حرب شاملة الى حرب بالمفرّق واضعا الحزب في موضع مُحرج جدًا، فهو لا يستطيع الرد كي لا يدفع نحو استئناف الحرب، ولا يستطيع الصمت طويلا لأن في ذلك انهيار صورته تمامًا.
لا ندري إذا كان هذا المحور أو بعض أركانه سيستطيع النهوض مجدّدا وبأي شكل، خصوصًا بعدما تبيّن أن التقدم التكنولوجي والاستخباري الإسرائيلي الهائل قادرُ على منع أيّ محاولة للنهوض، لكن بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع، يبقى أن الشعب الفلسطيني الذي يكافح منذ أكثر من 76 عامًا للبقاء على أرضه، يجد نفسه اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في مهب الريح رغم نضاله الاستثنائي .
المصيبة العربية الكُبرى في هذا الزمن الصعب، هو اعتقاد البعض بأنّ نكسة اضلع المحور الإيراني والتي تشبه إلى حد بعيد نكسة الرئيس جمال عبد الناصر بعد أن دمّر الاحتلال طائراته وهي رابضة على أرض المطار قبل اندلاع الحرب، يعني أن نتنياهو سينثر زهور السلام وياسمين المحبة، ويقيم جسور التعاون مع الأطراف الأخرى.
صحيح أن هذه الدول تضرّرت من أضلع المحور، واستحكم العداء بينهم خصوصًا في مرحلة التصادم الإيراني الخليجي، وصحيح أن بعضها يؤيد القضاء على الفصائل الإسلامية المسلحة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، لكن المشكلة أن غياب مشروع عربي واضح، يؤدي الى فراغ كبير يسارع أعداء العرب لملئه بشكل أو بآخر.
كان لافتًا مثلاً أنَّ إسرائيل تغوّلت في سورية مباشرة بعد سقوط النظام، وتزامن ذلك مع رفع ترامب لهجته لتهجير فلسطينيي غزة الى مصر أو الأردن، ولم تمنعه وقاحته من التعبير عن هذا الموقف بحضور ضيفه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وفيما إسرائيل راحت ترفع اللهجة تدريجيًّا ضد الجيش المصري في سيناء، رفع ترامب لهجته ضد قناتي السويس وبنما، مطالبًا بإلغاء رسوم المرور عن السفن الأميركية. وحين أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن مشروع استثمار 600 مليار دولار في الولايات المتحدة الأميركية، لم يتردد ترامب مرة ثانية وبوقاحة تُشكل سابقة في تاريخ العلاقات الأميركية السعودية بالقول إنه يريد رفع المبلغ الى ألف مليار دولار.
لا شكّ في أن عددًا لا بأس به من الدول العربية ،كان يريد إعادة إيران الى داخل حدودها ويعمل لذلك، ولا شك في أن الكثير من الدول العربيّة ينظر بعين الريبة الى التمدد التركي، لكن أطماع نتنياهو من جهة، وهيجان ترامب في كل اتجاه من جهة ثانية وعدم الاطمئنان الى أي ثابت معه، يدفع الى الاعتقاد بأن كل دولة عربية مهددة حتّى لو كانت من التي اقامت علاقات مع إسرائيل. لذلك يسعى عدد من الدول العربية إلى محاولة تشكيل سدّ ليس لتقديم بديل عربي في المنطقة، بل على الأقل لدرء ما هو أخطر.
وليس تعيين الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس مثلاً، حسين الشيخ نائبًا له، سوى في سياق البحث العربي عن إعادة انتاج سلطة فلسطينية إصلاحيّة، ومحاولة توحيد الصف الفلسطيني ( الذي لا يعلم غير الله لماذا لم يتوحّد بعد، رغم كل هذه المصائب)، ودعم السلطة المقبلة في سياق التفاوض على مستقبل فلسطين الذي يضيع يومًا بعد آخر.
ما عادت القضيّة تقتصر على فلسطين، فالعالم غربًا وشرقًا، يعيد رسم خرائط المنطقة، وبعض الدول العربية التي كانت دائرة في إطار حصرية التحالف الأميركي العربي، وسّعت إطار علاقاتها مع الصين دفاعًا عن مصالحها أمام ضبابية المواقف الأميركية منذ سنوات، لكن الأمر يتطلب أكثر من ذلك كي لا يكرر التاريخ نفسه بصورة أكثر مأساوية مما حصل بعد سايكس بيكو وبعد وعد بلفور الذي انتقل اليوم الى وعد ترامب.
يحتاج العرب اتفاقًا حقيقيًّا على مشروع للمستقبل لا يقتصر على الرؤية السياسية الواضحة، بل يمتد ليشمل كافة وجوه الأمن القومي والأمن الغذائي والأمن التكنولوجي والأمن العلمي والفكري.
يحتاج الوطن العربي الكبير الى خطّة متكاملة مدعومة من دول اسلامية، يشارك فيها سياسيون متنوّرون ورجال فكر وعلم وثقافة وتكنولوجيا، لأن القادم أخطر بكثير من الذي مرّ. وتحالف نتنياهو-ترامب ليس أمرًا عابرًا و لن يستثني أحدًا الا إذا أظهر العرب موقفًا أكثر صلابة وأشدّ وحدة وأنجع رؤيا.
الهزيمة ليست قدرًا لو عرف العرب كيف يتفقون حول مشروع عربيّ حقيقي ولو لمرة واحدة في تاريخهم.