عام 2024.. العام الذي لم يُغث فيه الناس من الدمار
أيمن مرابط_ الرباط
ثم أتى عام، يُقتل فيه الناس، يُفتك بهم، يذبح أبناؤهم، وتُستحيى نساءهم، ولا يغاثون، لا ينقذهم أحد، يُقتلون تباعا، ولا مكان لهم للاحتماء، والاختباء، ولا طريق نجاة لهم.
ثم يأتي عام، لا تُعرف فيه الوجوه الحية من الميتة، ولا تُعرف طريق النجاة من طريق الموت، ولا تُعرف فيه أماكن الحياة إطلاقا، فالمدينة التي كانت تنبض بالحياة، أسكت نبضها البرابرة المتوحشون، نيارين العصر الحالي الذين لا شغل لهم سوى قتل الناس وتدمير منازلهم.
لقد كان عاما مليئا بمشاهد الدمار والقتل، وأخبار القصف التي كانت تتجدد على رأس كل ساعة، ودقيقة، وثانية، تنقلها الفضائيات الدولية، على البث المباشر وكأنها حدث عابر، وتسردها مذيعات يتزين بأفخم أنواع أحمر الشفاه، وآخر صيحات اللباس، وبشعر مرتب، لتنقل لنا أخبار الموت في المدينة، إذا خجلت، تنقلها بتحفظ وبنظرة عين تشي بشيء من الحزن، أو نظرة محايدة، أما الكثير منهن، فكلّما ذكرت رقما مرتفعا، تهللت أساريرها وانفرجت.
والأكثر مصيبة من ذلك، حين يُسرد الخبر بلغة عربية سليمة تارة، وغير سليمة تارات أخرى، ولكنّها تبقى عربية، يُسرد بطريقة تفهم منها أن سارد الخبر وناقله وصانعه، فرحين بما حدث، مسرورين بحجم الكارثة لأنهم حققوا سبقا في نقلها، واستعرضوا فيها عضلاتهم اللغوية والحسية والجسدية أيضا، ما يجعل تلك اللغة العربية لا تستحق حروفها أن تخرج من ذلك الفاه، وتقول في نفسك لو كانوا يتحدثون بلغة أخرى لكان أفضل.
لقد كان عاما، اكتشفنا فيه كيف أن بعض الفئات البشرية، ليس لها أدنى مشكلة مع القتل، ومستعدة لتبرير كل الجرائم الوحشية ضد الإنسانية، فقط لأن من يُقتل الذي هو من لحمها ودمها، ومن وطنها، يختلف معها في شيء ما، لا يستحق أن يُذكر حتى، في هذا الوقت، برّروا لأعداء البشرية ما لم يُبررونه هم لأنفسهم، وحتى هذه اللحظة، لا نعلم كيف سوّلت لهم أنفسهم تبرير القتل، ماذا كان المُقابل؟، أم في الأمر غريزة بشرية مُشوّهة، لكن الواضح من كل ذلك، أن الجهل بالتاريخ والحضارة وانعدام الأدب وأشياء أخرى، يجعل بعض الفئات تمشي دوما مع سردية “الأقوى” الذي يفرض بالقوة والقتل، خطابه وأسطورته.
في هذا العام، الذي انتهى قبل أيام، عرفنا جيدا كيف أن لسنوات وعقود طويلة، بُنيت امبراطوريات إعلامية مُدوية، تستطيع قلب الحقائق والمفاهيم دفعة واحدة، وتُزور الحقائق أمام الملأ، وتُقنع الناس بالكذب والبهتان، لأجل هذه اللحظة، حين تُرتكب أكبر مجزرة في القرن الواحد والعشرين، لابدّ من امبراطوريات إعلامية تقلب كل الشيء، وتجعل المعتدي هو الضحية، وتصرّ على أن الخمسين ألف قتيل وما يزيد عن ذلك بكثير، هم لا شيء، مجرد رقم، هذا إذا لم يكونوا أشرارا وشياطين يستحقون القتل بالنسبة لها.
لقد كان عاما، اكتشفنا فيه شعوبا أصيلة، ملأت الشوارع والساحات الكبرى في المدن عبر العالم، وتصدح ليل نهار، لأجل وقف القتل والحرب، وأظهرت أن مبادئ الكرامة والحق في العيش والسلام والحق في الحياة، هي أشياء أكبر بكثير من الاختلاف الديني والعرقي بين الشعوب، سواء كانت شرقية أو غربية، وأن الإنسانية هي الأساس وهي جوهر هذا العالم، بينما أقرب الشعوب للناس الذي يموتون تباعا، كانوا منشغلين بأشياء أخرى إلا من رحم ربي.
خلال هذا العام، اكتشفنا أن بعض البشر باتوا عبيدا لحياة “الترف المزور”، وحين قيل لهم قاطعوا مُنتجات أنتم لا تحتاجونها في حياتكم، قاطعوا لأنها تدعم آلة القتل والدمار، ولأنها تفتك بصحتكم وترسلكم أرتالا إلى المستشفيات وعيادات الأطباء، وتسبب لكم سرطانات وأمراض لم تسمعوها من قبل، قالوا لا، لن نُقاطع ولا نقدر أن نقاطع، نريد أن نستمتع بها ونتلذذ بأكلها، ونعيش حياتنا كما هي، حينها، عرفنا كيف أن من صنع وفكّر وخطط لبيعها، كان ولا يزال بارعا في خططه، يعرف كيف يبيع السعادة، بل وتفوّق على بائعات الهوى اللواتي يترصّدن الزبائن بدقة مبهرة.
سيبقى العام الذي انتهى قبل أيام، عاما مؤرخا ومحفورا في تاريخ البشرية، فما بعد 2024، ليس كما قبله، وليس كما ما حدث فيه هو نفسه، لكن الشيء الوحيد الذي لا يتغير، هو أن خرائط الجغرافيا في هذه الأرض، لا تزال تُرسم بالدماء النازفة، ولا يزال برابرة ونيارين العصر يسرحون ويمرحون ويتجوّلون بين البلدان، ويفكرون أي البُلدان سنغزو هذا العام أو هذا اليوم، وأي مدينة سنُدمر، وأي بيوت سنهدم، فذلك هو إنجازهم ولا غير ذلك.
لم أرد أن أشرح وأفصل في أحداث العام السياسية، ومن منظور السياسة والعلاقات الدولية ونظرياتها والجيوبوليتيك، فأمام هول ما نراه ورأيناه على مدى العام، لم يعد للتحليل السياسي والجيوسياسي وتلك المسميات دور ولا معنى ولا قدرة لوصف ما حدث، وليس هناك كلمات مناسبة إلاّ ما استطعت جمعه ولصقه فيما بينه لأكتب ما كتبت، فحتى الكلمات تشّتتت والحروف تذمرت وتدمّرت، لكنّ إرادة الكتابة، كما إرادة الحياة، تبقى حاضرة، وتأبى الخضوع والرضوخ، تجري في الداخل مجرى الدم.
لقد تعمّدت كتابة عام وليس كلمة سنة، رغم الفرق بين الكلمتين حسب خبراء اللغة، ودلالة كل كلمة من خلال ما ذُكر في القرآن الكريم، حين ذكر الله تعالى في سورة يوسف، سنوات الجفاف ب”سبع سنوات عجاف”، وحين جاء الغيث للقوم، قال “ثم يأتي عام يغاث فيه الناس”، ذلك أن رغم كل ما حدث خلال العام وشهوره وأيامه ولياليه، يبقى الأمل في الغيث دوما قائما، ولأننا عرفنا فيه عدة مفاهيم جديدة ظهرت لنُحاربها، ووجوه كثيرة انكشفت حقيقتها أمام الأعين، وأن شمس الحرية والكرامة تشرق وتطلع على الأرض من حيث لا يدري كل من يريد تغطية أشعتها بغربال القهر والظلم.