الوباء الصامت وضحايا التهجير القسري
د.حسن مبارك ( طبيب نفسي)
يتعرض سكان الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني للتهجير منذ أكثر من عام كامل نتيجة الأعمال الحربية الدائرة على طول الحدود اللبنانية الفلسطينية المحتلة. ومع توسّع رقعة الحرب خلال الشهرين الماضيين لتشمل مساحات واسعة في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية، ازداد عدد النازحين الذين لجأوا إلى مراكز إيواء باتت مكتظة، وظهرت عوارض كثيرة للآثار النفسية على العديد منهم.
إن الخسائر المادية والبشرية الواضحة للعيان الناتجة عن العدوان الإسرائيلي كارثية وسيمتد أثرها لسنوات. إلا أن هناك أضرارًًا خفية تنتج عن الحروب. ألا وهي الأضرار النفسية التي بطبيعتها لا تظهر على صاحبها للعلن، لكنّها تُلقي بظلالها على كل جوانب حياة الفرد وقد تتعدى ذلك لتشمل أفراد العائلة والمحيط.
إن طبيعة عملي كطبيب مقيم في العاصمة اللبنانية بيروت سمح لي بمعاينة الواقع عن قرب. فخلال الشهر الفائت، قمت بزيارة عدة مراكز إيواء للنازحين قهراً وهي في أغلبها مدارس رسمية في الأصل تحوّلت إلى مراكز إيواء لدواعي الضرورة. كانت هذه الزيارات تهدف إلى تقديم خدمات صحة نفسية مجّانية ضمن حملة تنظمها إحدى مستشفيات بيروت الجامعية تارةً، وإحدى الجمعيات ذات الصلة تارة أخرى. ومن خلال وجودي على الأرض، بدا لي جلياً سوء الحالة النفسية عند نسبة من النازحين ليست بقليلة.
عينة من الأطفال
” من لما سمعت هيداك جدار الصوت القوي، كل ما إسمع ضربة خفيفة بركض عند ماما”. هكذا عبرت ببراءتها فاطمة ابنة العشرة سنوات عن تجربتها. كانت فاطمة قد نزحت مع أهلها من منطقة الأوزاعي إلى مركز إيواء في العاصمة قد إصطحبتها أمها إلينا كونها تعاني من تبوّل لا إرادي رجحت أنه نتج عن عوامل نفسية.
“ما عاد عم تقبل تنام إلا حدي. وإذا بدا تجيب غرض من تاني غرفي بتروح ركض وبترجع بتركض لعندي”. قالت الأم.
توافق أم فاطمة على مقولة ابنتها، بل تؤكدها وتربطها أيضاً بأصوات انفجارات أخرى. سمعت في الأشهر الماضية انفجارات كثيرة عنيفة جداً. فمن جهة الانفجارات الناتجة عن اختراق الطائرات الحربية لجدار الصوت الذي كان متكرراً ومنخفض العلو إلى انفجارات أجهزة البايجر المعروفة إو أصوات قصف الأبنية السكنية من جهة أخرى. وكانت أعنف تلك الانفجارات هي الناتجة عن اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله التي استخدم فيها العدو الإسرائيلي ثمانين طنّاً من المتفجرات. يومها كانت فاطمة على سطح البيت. ومع سماعها لأصوات الانفجارات، أصيبت بالذعر وهرعت ركضاً قافزة من على السطح بدلاً من النزول على السلم.
“ما بعرف من وين جابت هالقوة لتنط هيك نطة.”
عينة من الكبار
في زيارة لمركز آخر، قصد عيادتنا النقالة رجل ثلاثيني طالباً المساعدة.
قال علي: “والدي يفترش الطريق ويرفض أن يعيش في أي منزل!”.
اتضح من هذا الرجل النازح من الجنوب أن والده يعاني من حالة فصامي مزمنة (Schizophrenia)، وقد كان يعيش في مستشفى مخصص للاضطرابات النفسية في الجنوب. مع اندلاع الحرب، اضطر علي لإخراج والده من المصح، ولم يجد مركزًا في بيروت يستطيع تحمل نفقاته فأسكنه منزلاً. سرعان ما قام أبو علي ببيع مقتنيات المنزل بسعر زهيد وتوقف عن تناول دوائه. هذه التصرفات غير المسؤولة هي عوارض مألوفة جداً لدى مرضى الفصام.
ثم قرر الوالد لاحقاً أن يعيش في بناءٍ مهجور رافضاً أي احتمال آخر ليزوره ولده يومياً ويتطلع على أخباره ويساعده على قدر الحاجة راضخاً للأمر الواقع. سرعان ما أثار أبو علي مشكلات لأهالي الحي ما اقتضى من ابنه التصرّف. لن أخوض فيما جرى لاحقاً وعن الإجراءات التي قمنا باتخاذها لضمان استشفائه. ولكن المقصود من هذه العينة هو الإضاءة على أمر بالغ الأهمية حاليًّا، ذلك أنَّ النقص في المؤسسات الحكومية المعنية بعلاج الحالات النفسية وضعف التغطية الوزارية للمرضى المحتاجين في المؤسسات الخاصة تجعل واقع هؤلاء المرضى صعباً للغاية. ففي بيروت وضواحيها، لا يوجد أي مستشفى حكومي معني بعلاج الحالات النفسية باستثناء جناح الصحة النفسية في مستشفى رفيق الحريري الجامعي الذي يتسع لخمسة مرضى فقط وقد أقفل بعد تأزم الوضع ووصول الحرب إلى ضاحية بيروت الجنوبية. هذا بالضبط ما يجعل العائلات أمام خيارين، إما تحمل التكاليف الباهظة أو ترك أفراد العائلة لمصيرهم مكرهين لا مخيرين.
خلاصة القول :
إن هاتين العينتين هما مثالان عن عشرات الحالات التي رأيناها على الأرض. هما حالتان من عشرات ألآف مِمّن غيّرت الحرب حياتهم على أصعدة عدة. تعرف الحروب بأنها أقسى وأعقد نشاطٍ بشري ينتج عنه كلُّ أشكال المعاناة التي تُصيب سكان مناطق النزاع. ومن بين أشكال المعاناة شكلٌ مخفي، وهي المعاناة النفسية التي يُحسن بنو البشر إخفاءها وتلطيفها بكلمات وشعاراتٍ لا طائل منها. هذا من شأنه أن يفتح النقاش أمام المعنيين لاستدراك الواقع النفسي الذي سينعكس على شريحة كبيرة من الناس لفترة ستمتد لسنين طويلة.