الحرب بين التهويل والواقع
سامي كليب
يومًا بعد آخر، يزدادُ قرعُ طبولِ الحرب الأوسع، وتتعدّد أسبابُ اندلاعها، لكن المفاوضات السريّة في أكثرَ من مكان، والعلنية في أمكنةٍ أخرى تُحاول منعَها، أولاً بسبب هولِ دمارِها لو وقعت، وثانيًّا لأنَّ إدارة الرئيس جو بايدن تُريد تحقيقَ إنجازٍ سياسيّ أمني قبل الانتخابات، أو على الأقل تجنبَ التورط في حربٍ أوسع.
نحن أمام عالمٍ يُشبه البرميل المتعدَد الثقوب، تخرج منه المياهُ الملتهبة من كل مكان، فلو نظرنا الى الصورة العالميّة الأوسع، نرى دعمًا غربيًّا كبيرًا لأوكرانيا لكسر شوكة روسيا العسكرية قبل أي تفاوض، وهو ما يُفسّر نجاحَ الجيش الاوكراني في اختراق الأراضي الروسية عبر كورسك والوصول بالمسيّرات إلى موسكو.
وفي هذه الصورة العالميّة الأوسع، نقرأ خطّة سريّة صاغتها إدارةُ بايدن، كشفتها صحيفة نيويورك تايمز وقالت فيها إنَّ الرئيس الأميركيّ وافق في مارس/ آذار الماضي على خطة إستراتيجية نوويّة شديدة السريّة تُعيد لأول مرة توجيهَ إستراتيجية الردع الأميركية نحو جهود الصين لتوسيع ترسانتها النووية
وهو ما ردَّت عليه الخارجيةُ الصينية معربةً عن قلق بكين من موافقة بايدن، على هذه الاستراتيجية النووية السرية، وقالت إنَّ واشنطن أكبرُ مصدّرٍ للخطر النوويّ الاستراتيجيّ بالعالم، وإنّها تروّج لهذا التهديد الصينيّ النوويّ للتهرُّب من التزاماتها الخاصة بالأسلحة النوويّة.
هذا الأمرُ بين واشنطن وبكين ليس عابرًا، ويحمل تهديداتٍ فعليّة، فلو عدنا مثلاً إلى الكتاب الحامل عنوان ” الخطر” لصحافي التحقيقات الأميركيّ الشهير بوب وودوارد نقرأ أن رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال مارك ميلي، تدخَّل “سرًّا” لمنع وقوع نزاع عسكريّ مع الصين على خلفية التوترات مع الولايات المتحدة أثناء رئاسة دونالد ترامب، وأنَّه أمر الضباط المسؤولين عن تنفيذ أوامر إطلاق الأسلحة النووية بالرجوع إليه خشية أن يتصرف الرئيس السابق بمفرده في هذا الأمر.
هذا في الصورة الأوسع، وأما في الصورة الأضيق، عندنا في الشرق الأوسط، فيبدو أن بنيامين نتنياهو، يجدُ الفرصة مؤاتية الآن لممارسة أقصى الابتزاز السياسي في الانتخابات الأميركية، بانتظار هل ستنجح كامالا هاريس أو يعود صديقُه دونالد ترامب. ولذلك فهو يحاول دفع واشنطن للضغط على حلفائها العرب بُغية دفع حماس لتقديم تنازلات، ودفعِ مصرَ للقبول بتنازلات عند المعابر، وإنْ لم يحصل على ذلك، فهو يُصرّ على مواصلة الحرب، وثمة من يعتقد بأنَّه يعمل على جرّ إيران إلى التورط مباشرة بها، لأنَّ ذلك سيدفع الولايات المتحدة الأميركية ودولَ الأطلسي للتدخُّل، ويرى أنَّ ذلك سيسمح له بقيادة حربٍ متعددة الجبهات من فلسطين الى لبُنان واليمن فالداخل الإيرانيّ مرورًا بالجولان.
المحور المواجه والذي تقوده إيران، يرفع هو الاخر مستوى الضغوط، ليس لتوسيع الحرب بل لرفع مستوى الضغوط على نتنياهو، بغية القبول بوقف هذه الحرب والشروع بمفاوضات حقيقية لإعادة أهل غزّة. وهو كلّ يومٍ يكشفُ عن أسلحةٍ واستعداداتٍ جديدة.
والواقع أنّه حتّى الآن، لا أحد يستطيع التنبؤ بالاحتمالات المُقبلة، فالانزلاق إلى حرب أوسع واردٌ جدًّا، وكلُّ طرف رفع مستوى جهوزيتِه إلى أقصاها. وهذا بالضبط ما دفع واشنطن لإرسال أكبر حاملة طائرات لها الى المنطقة وعلى متنها أكثر من 75 طائرة، بما في ذلك الطائرات الشبحية المتقدمة.
لكن في مكان أو أمكنة أخرى في هذا العالم، تجري مفاوضاتٌ حثيثة لمنع توسّع الحرب، وإنهاء حرب غزة التي بعد أن تنتهي ستبدأ محنةُ تأمين عشرات مليارات الدولارات لإعادة الإعمار.
هذه المفاوضات تشمل الولايات المتحدة الأميركية ودولاً أوروبية وإسرائيل ومصر وقطر وإيران وصولاً الى حزب الله بطرق غير مباشرة، بغية أقناع الجميع بتخفيض التصعيد وعدم الانزلاق إلى الحرب. وفي بعض هذه المفاوضات يجري الحديث عن السلطة الواجبِ أن تقوم في غزة بعد الحرب وغيرها من المسائل.
إيران لم تقل حتّى الآن إنّها تخلَّت عن الرد على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على ارضها، بل بالعكس هي تؤكد يوميًّا أنَّها سترد، لكن إيران تجيد الموازنةَ بين التهديد والتفاوض، وتعرف هي أيضًا أنها قادرة على التأثير على الانتخابات الأميركية، وقد لا تتردد في بعث مؤشراتٍ حول ترجيح كفّة الديمقراطيين بقيادة كامالا هاريس على عدوها اللدود ترامب. كما أنَّ إيران تُدرك أنَّ نتنياهو راغبٌ بجرّها إلى حربٍ قد لا تكون متكافئة لو تدخّلت دولُ الأطلسي. وتُدرك إيران أيضًا أن الحرب بين حزب الله وإسرائيل ستكون مدمّرة في الجانبين ولا أحد يستطيع ضبطَ مآلاتها.
والحزب الذي لا يُغلق الباب على التفاوض، ويقبله تحت سقف وقف حربه إذا توقّفت حربُ غزة، لن يتنازل عن الرد على اغتيال أحد أبرز قادته فؤاد شكر، لكنّه ما زال يضبط إيقاعَ الحرب على استراتيجية دقيقة، ويعمل على توسيع الاشتباك يوميًّا ليس لتوسع الحرب بل لرفع مستوى الضغط على نتنياهو. وثمّة من يقول إنّه لم يستخدم بعد اسلحتَه الاستراتيجية بعد.
وفي المعلومات أن روسيا دخلت على الخط بقوة، لإقناع إيران بعدم توسيع الحرب الحاليّة ولنصح سورية بعدم الانخراط. وهذا كان فحوى الرسالة التي حملها القائد العسكري الروسي الكبير روغوزين الى طهران مؤخّرًا، ذلك أنَّ أيَّ حرب كُبرى إسرائيلية سورية ستضع موسكو الموقعة اتفاقات دفاعية دقيقة مع دمشق والتي لها فيها قواعد عسكرية واتفاقٌ لاكثر من تسعين عامًا، في موقع حرج جدًا حيث أنَّها ستضطر للدفاع عن الجيش السوري، أو السماحِ له باستخدام منظومة الصواريخ أس 300، في مواجهة إسرائيل وهو ما لا تريده.
لكن موسكو تعمل أيضًا كما الصين على دعم الأطراف المواجهة لواشنطن في المنطقة لان في الأمر ما يوسع فخَّ الشرق الأوسط ضد المصالح الأميركية وينقل الصراع من أوكرانيا وتايوان الى الشرق الأوسط.
خلاصة القول: إنَّ الحروب الدولية المستعرة، تجد في الشرق الأوسط ساحة فُضلى لها حاليًّا لتصفية الحسابات، وإنَّ نتنياهو المستمرَّ في الغرق في وحول غزة رغم الدمار الكبير البشريّ والعمرانيّ، يرى أنَّ نقل الكرة الى لُبنان وإيران سيزيد التعاطف الدولي مع إسرائيل ويُعزّز اللحمة الداخلية وينقل الحرب إلى مستوى آخر.
لذلك فالقول إنَّ الحربَ واقعةٌ غدًا فيه تهويل، والقولُ بأنَّ الحرب لن تقع أبدًا فيه تهويلٌ أكثر. نحن أمام فترة سيزداد فيها التصعيد حتى الانتخابات الأميركية على الأقل، ولا أحد يستطع أن يمنع التصعيد من الانزلاق إلى ما هو أخطر.