هوليود وصورة إسرائيل…في كتاب مهم
روزيت الفار-عمّان
في كتابهما المشترك، والّذي يعتمد على ارشيفات وطنيّة ودوليّة، قام المؤرّخان توني شو وجيورا غودمان بتحليل دقيق لأصول ونمو وتأثير الثّقافة الشّعبيّة الأمريكيّة على تصوير إسرائيل في الأفلام بحيث تلقى صدى واستجابة لدى الجماهير الغربيّة. الأمر الّذي لم يكن بالعمل السّهل، وخصوصاً أنّ علاقة إسرائيل مع العديد من دول الغرب، وخاصّة بريطانيا، لم تكن آنذاك جيّدة. قدّمت الولايات المتّحدة الأمريكيّة، والّتي لم تكن حينها على خلاف مع اليهود، جمهوراً متقبّلاً لتلك الأفلام، بعد أن احتضنت أعداداً كبيرة منهم جاؤها من الشّتات.
ومن حسن حظّهم؛ رافق قدوم هؤلاء اليهود ولادة السّينما الهوليوديّة والّتي لعبت دوراً محوريّاً في تشكيل الوعي الأمريكي والغربي نحو القضيّة الفلسطينيّة من خلال إنتاجها السّينمائي ومشاهير نجومها.
تاريخيّاً، يعود تضامن الإنتاج السّينمائي الهوليودي لصالح الاحتلال؛ إلى ارتباط شركات الإنتاج السّينمائي بإسرائيل تماماً كارتباط أمريكا العضوي بها. فقد أفردت هوليود مساحات واسعة منذ بداياتها من شاشاتها للأفلام المناصرة للصّهيونيّة وإسرائيل حملت رسالة ثابتة هي: دعم حقّهم بتأسيس دولتهم بفلسطين ودعم جميع ما تقوم به إسرائيل من ممارسات وتبرير سلوكها وشيطنة الفلسطينيّين دون أن تترك لهؤلاء أيّ مساحة مؤثّرة تجعل أمريكا والغرب يتعاطف معها.
تطوّر شخصيّة اليهودي في السّينما العالميّة.
لم تخلُ سينما هوليود الصّامتة في مطلع القرن العشرين من حضور شخصيّة اليهودي المأخوذة من الصّورة النّمطيّة في عقليّة الغرب. صورة اتّسمت بالدّهاء والطّمع وامتلاك المال، وبأنَّ اليهود غرباء يبثّون الخوف أينما ذهبوا. كما شابت شخصيّة اليهودي المرسومة في السّينما مبالغات جسديّة ككبر حجم الأنف وانحناء الظّهر وملامح وجه حادّة.
ساهمت بتعميم هذه الصّورة أدبيّات أوروبيّة كمسرحيّة شكسبير “تاجر البندقيّة” الّتي قدّمت شخصيّة المرابي اليهودي شايلوك، الشّخصيّة الممعنة بنمطيّتها والّتي انعكست بسماتها على مئات الشّخصيّات في أعمال سينمائيّة لاحقة.
تغيّرت تلك الصّورة مع دخول بعض اليهود المهاجرين إلى أمريكا واندماجهم بالعمل السّينمائي، الّذي درّ عليهم فيما بعد ذهباً، ولم يكن يتطلّب الكثير من المال أو الشّهادات الرّفيعة، ممّا ناسب ظروفهم الفقيرة، إضافة إلى نشاطهم في “الغيتو” -الأحياء الّتي عاشوا فيها بعد نزوحهم- الّذي لم يتطلّب سوى الموهبة بالتّمثيل.
تدريجيّاً؛ ومع دخول رجال أعمال يهود إلى أمريكا، تمكّنت هوليود من تأسيس شركات إنتاج سينمائي وفنّي مهمّة لا تزال تعمل حتّى الآن مثل MGM و Colombia و Paramount فلم يعد اليهودي يمثّل التّاجر الغني البخيل الاستغلالي بل بات شخصيّة يمكن التّعاطف معها، كما بفيلم “خيوط المصير” 1915 وفيلم “مغنّي الجاز” 1927.
غابت في الثّلاثينات؛ شخصيّة اليهودي عن سينما هوليود بشكل واضح، ويعود السّبب -كما فسّره الكثيرون- لرغبة اليهود الشّديدة في إثبات إخلاصهم للمجتمع الأمريكي المسيحي الجديد واندماجهم فيه، لدرجة أن قاموا بتغيير أسمائهم ودياناتهم بغية عدم الظّهور كشخصيّات مميّزة. ركّزت السّينما الأمريكيّة بعدها على إنتاجات تظهر اليهود “كضحايا”، خاصّة بعد المحرقة ومشروع إسرائيل بفلسطين، من خلال عشرات الأفلام الّتي ساهمت بمحي الصّورة القديمة وبتشكيل صورة نمطيّة جديدة لهم و للعرب المسلمين في العقل الأمريكي والغربي.
وفي الأربعينات، لم يكن اهتمام هوليود مقتصراً على تأثير إسرائيل وهجرة اليهود إلى فلسطين فحسب؛ إنّما على الحملات الدّاعمة لإسرائيل بقيادة كبرى الشّركات والشّخصيّات وجماعات الضّغط الّتي عملت على تنظيم حملات تدعم العصابات اليهوديّة الّتي اشتهرت بإجرامها بحق الفلسطينيّين مثل الإرجون والهاغاناه. وكان “مارلون براندو” الممثّل الّذي نحب، من أكبر المتحدّثين في تلك الحملات والدّاعين لجمع التّبرّعات. (عُرف عنه لاحقاً؛ بتغيّر موقفه لصالح الفلسطينيّين لكونِهِ فنّاناً مدافعاً عن القضايا الإنسانيّة العادلة وضدّ التّميّيز العنصري.)
وبعد الحرب العالميّة الثّانية؛ تضاعف الدّعم الهوليودّي لإسرائيل لدرجة التّبنّي عبر تطوير أدوات عرض الأفكار والرّوايات الشّخصية. فركّزت الأفلام على قصص الهروب والاختباء من النّازيّين ولجوء اليهود لمخيّمات أوروبّا وأمريكا. ثم الهجرة إلى “الوطن الجديد”. كانت هذه الأخيرة؛ المحطّة الأهم والّتي وظّفت هوليود أفلاماً كثيرة للدّفاع عنها وصوّرَتها بكاميرات يهود وأشخاص مناصرين لهم. كفيلم “البحث”، الّذي يحكي مأساة الأطفال اليهود في أوروبّا والإلتزام بالمسؤوليّة الإنسانيّة تجاه إيجاد حل لهم ولمستقبلهم. قُدِّم الفيلم بطريقة فنّيّة تقارب الإعتذار من هؤلاء الضّحايا.
ففي الخمسينات؛ قدّمت هوليود، أفلامها المُتمحورة حول “الدّولة الجديدة” بطريقة كلاسيكيّة مليئة “بالدّعاية” الّتي تركّز على وجوب إيجاد وطن لليهود الهاربين من الهولوكوست في فلسطين والّتي كانت للأسف متوافقة مع الدّعاية التّوراتيّة التّاريخيّة والرّواية الصّهيونيّة، ضمن رؤيتهم الخاصّة الّتي تجعل الأمور المزيّفة تبدو وكأنّها حقيقيّة. فصوّروا فلسطين كأرض تكاد تكون خاوية؛ يقطنها بعض الجَهَلة الّذين لا يملكون دولة أو هويّة حقيقيّة. كان فيلم “The Juggler” ل”بول نيومان” عام 1953، خير نموذج لتلك الأفلام؛ والأوّل الّذي تمّ تصويره في فلسطين.
عرضت إسرائيل بهذه الفترة حوافز ماليّة وتسهيلات للوصول إلى المعدّات والموظّفين لتحفيز صنّاع الأفلام على العمل لصالحها، كما استمرّت في ذلك حتّى اللّحظة.
قام المخرج اليهودي “اوتو بريمنغير” بإنتاج “Exodus” 1960 أهم فيلم يقدّم الرّؤية الأمريكيّة الدّاعمة لإسرائيل، والّذي يسرد مشاهد النّزوح لآلاف اليهود “المظلومين” نحو فلسطين ورحلة نضالهم نحو “وطنهم القومي” وكفاحهم لأجل تحقيق حلمهم.
يوصف الفيلم بأنَّه الأقوى تأثيراً بالجمهور الغربي والأمريكي بتاريخ هوليود؛ الّذي عمل لصالح الإحتلال وخلق التّعاطف مع اليهود الهاربين من جحيم المذابح النّازيّة والخلاص إلى أرض لا يريدون منها سوى الإستقرار والأمان، حيث يصطدمون بوحشيّة الفلسطينيّين الّذين يريدون قتل كلّ من جاء على ظهر القوارب لبلادهم. لكنَّ إيمان اليهود وإرادتهم -حسب تعبيره- مكّنهم من الإنتصار.
رُشِّح الفيلم لجائزة أوسكار وحصد جائزة أفضل موسيقى. وكيف لا؟ هي الّتي لعبت الدّور الأكبر في استمالة عاطفة جميع من شاهده. بطلُهُ “كيرك دوغلاس” اليهودي الّذي غيّر إسمه، قال: لو لم أكن أكتب كتباً وأفلاماً عن إسرائيل، لفضّلت التّواجد فيها لأطلق النّار على العرب.
استدعت إسرائيل فيما بعد، وبعد أن أصبحت تتولّى أدواراً مهمّة في السّياسة الإقليميّة، كبارَ المؤثّرين الأمريكيّين لزيارتها وأقامت معهم علاقات تجاريّة؛ عملوا كسفراء مروّجين لروايتها أمام الجمهور الأمريكي، كما وعملت على حثّ مشاهير الممثّلين والمنتجين وصنّاع التّرفيه على إنتاج أفلام وأعمال فنّيّة تدعم دولتهم الجديدة. كان منهم ضبّاط موساد سابقين مثل “آرنون ميلشان” الّذي استعمل نفوذه لربط إسرائيل بهوليود وللتّرويج لها وقمع أيِّ انتقاد موجّه لسياساتها وممارساتها الوحشيّة. شكّل ذلك انطلاقة لعلاقة وثيقة تربط إسرائيل بهوليود لعقود طوال.
وبعد عرض عشرات الأفلام والمسلسلات والبرامج المُتلفزة النّاجحة في إظهار العربي بشخصيّة الإرهابي؛ والإسرائيلي بصورة البطل المقدام، تغيّرت صورة إسرائيل بشكل سلس لتوافق أذواق الأمريكيّين، من الأرض المقدّسة ومكافأة الحرب العالميّة الثّانية؛ إلى الحليف ضدّ الاتّحاد السّوفييتي ثمّ ضدَّ الإرهابيّين العرب والمسلمين.
استمرّت هوليود بعدها بإنتاجها الفنّي الّذي يحاكي الدّعاية الصّهيونيّة، لكن بدرجات متفاوتة التّأثير. ففي العِقدين الأخيرين؛ عرضت أعمالاً تحمل في بعضها شيئاً من التّغيير، لكن، بشكل ضعيف، كفيلم “ميونيخ” الّذي عرض بعام 2005 وتحدّث عن الهولوكوست وعن عمليّة خطف وقتل الإسرائيليّين الأحد عشر في الألعاب الأولمبيّة وكذلك عن أحداث 11سبتمبر. الفيلم الّذي قارب فيه المخرج الأمريكي “ستيفن سبيلبرغ” الصّراع العربي الإسرائيلي من منظور مختلف. لكنَّه لاقى انتقاداً من الجانبين، العربي والإسرائيلي، حيث ركّز على مفهوم الانتقام وردّ العنف بالعنف والمساواة بين جميع ممارسي الإرهاب. الأمر الّذي غيّب العدالة الّتي انتظرها الفلسطينيّون بحقّ الدّفاع والمقاومة. وبالنّسبة للإسرئيليّين؛ فهو لم يركّز على الدّعاية الصّهيونيّة المعهودة حسب رغبتهم. ممّا أثار حفيظة إسرائيل وأقامت الدّنيا على رأسه.
متجاوزاً الخطوط الحمر لسينما هوليود، تجرّأ المخرج الأمريكي “جوليان شنابل” وباشتراك فرنسي إيطالي هندي وإسرائيلي، على تقديم فيلم “ميرال” الّذي يعرض مأساة أطفال فلسطين ووجوب الاهتمام بإيوائهم وتعليمهم، ويوجّه فيه المخرج الاتّهامَ المباشر لإسرائيل ومسؤوليّتها عن الدّمار الإنساني بحقّ أطفال فلسطين الّذين يتّعرّض الآلاف منهم للحرمان ولمواجهة الجرّافات الإسرائيليّة في بناء المستوطنات. واجه الفيلم بالتّأكيد؛ انتقادات إسرائيليّة واسعة وشكاوي رسميّة واتّهامات بتواطؤ الأمم المتّحدة في تسويق الفيلم.
لم يكن هذا الفيلم، للأسف، منطلقاً لسينما أكثر عدالة نحو الفلسطينيّين، إنّما استثناءً شبه وحيد؛ وسط سينما عالميّة ترى فلسطين بعين إسرائيليّة.
الممثّلة “نتالي بورتمان” الإسرائيليّة الأمريكيّة الحائزة على الأوسكار. تعتبر حالة جدليّة في هوليود لمناهضتها لإسرائيل، رفضت بالعام 2018 جائزة بقيمة مليون دولار احتجاجاً على سقوط ضحايا فلسطينيّين بغزّة برصاص الجيش الإسرائيلي. غير أنّ فيلمها “الحب والظّلام” -الّذي كان يؤمل منه إظهار الحقّ الفلسطيني- لم يكن كذلك. فقد أوحى، بمضمونه، إمكانيّة التّعايش بين الشّعبين الإسرائيلي والعربي، وهذه جزئيّة غير منطقيّة بالنّسبة للفلسطينيّين، كما وركّز على المظلوميّة اليهوديّة الّتي دفعت إسرائيل لإقامة دولتها وغيّبت بالكامل الرّواية الفلسطينيّة.
نرى كيف بذلت الحكومة الإسرائيليّة كلّ طاقاتها منذ البدايات، لتزوير الحقائق ولحشد المؤازرة والدّعم الأمريكي والغربي عبر كلّ الوسائل والطّرق، لدعمها والتّرويج لمصلحتها ولمعاقبة أيّ طرف ينتقدها، مهما علا شأنه. فمصلحة إسرائيل فوق مصلحة أمريكا نفسها وهي رمز تتضاءل أمامه كلُّ قيمة أخرى.
لكن إلى متى؟
المراجع:
كتاب : Hollywood and Israel the history
مقالة نبيل محمد : https://bit.ly/3YgZW3A
الجزيرة نت