إسرائيل ومحور إيران: حربٌ حتميّة تحتاجُ موعِدًا؟
الغيبيّات الدينيّة تقود حتمًا الى حروبٍ مُدمّرة
سامي كليب:
يُجمع متديّنو الأطراف الثلاثة، اليهوديّة والإسلامية والغربية المسيحيّة، المتقاتلون في غزّة وعند الحدود اللُبنانيّة-الفلسطينيّة وعبر البحر الأحمر أو العراق وسوريا، بأنَّ البشريّة وصلت حاليًّا إلى مرحلة الحسم في مستقبل إسرائيل، وكلُّ طرفٍ منهم يوظّف الرواية اللاهوتيّة لتأكيد قناعاته الغيبيّة بشأن التدمير الحتميّ لإسرائيل قبل عودة السيّد المسيح. وبالتالي فما لم نُدرك هذا البُعد الغيبيّ، يبقى كلُّ تحليلٍ لشراسة الحرب الحاليّة فوق رُكام غزّة أو في المناطق الأخرى للمحور المواجه لإسرائيل أقرب الى الرغبات منه إلى الحقائق.
لنُلاحظ أولاً، أنّ كلَّ الحروب العربيّة الاسرائيليّة وكلّ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تعرف هذا التطرّف في النزعات الدينيّة الغيبيّة التي نراها اليوم، والتي تعمّقت منذ أضطُر بنيامين نتنياهو للتحالف مع تياراتٍ دينيّة عنصريّة متشدّدة تؤمن بالغيب أكثر من الحاضر، وممثّلة خصوصًا بالوزيرين بتسلئيل سموتريتش الذي ترعرع في أكثر المستوطنات تطرّفًا، وتربّى على التشدد الديني الذي ورثه عن والده، وإيتامار بن غفير المُجاهر ب ” التفوّق اليهود” والمتأثر بأفكار مئير كاهانا المتطرّفة والداعية للقضاء على كل الفلسطينيّين.
لم يتردّد نتنياهو في تكرار عبارة أنَّ ” الحرب الوجوديّة” التي يقودُهاهي حاليًّا للدفاع عن ” الأرض المُقدّسة”، ويحتكر وقوف الله الى جانب إسرائيل في هذه الحرب، وهو ما يقوله سموتريتش من أنّ ما يحصل حاليًّا هو تحقيقٌ ل ” نبوءات توراتيّة” وبالتالي فلا يُمكن خيانة ” الوعد الإلهي” بالتخليّ عن أي شبر من أرض فلسطين، وهذا تمامًا خطاب بن غفير الذي يرى أن طرد الفلسطينيين تنفيذٌ للنبوءات والوعد الإلهي.
يستند هذا النزوع الديني، إلى دعمٍ كبير من قبل تيّار ” الصهيونيّة المسيحيّة” الذي تبنّى الرؤية الغيبيّة للتحالف بين من يوصفون ب ” الانجيليّين الجدد” واليهود الصهاينة بشأن تدمير الهيكل وعودة السيّد المسيح التي يجب أن تمرّ حُكمًا بانتصار إسرائيل إلهي.
لنتذكّر أن نتنياهو كان قد قال في خطابه أمام الاتحاد المسيحي من اجل إسرائيل Christians United for Israël، : ” ليس لدينا أصدقاء أفضل من المناصرين المسيحيين لإسرائيل، وأنتم انضممتم الينا لأننا نُمثّل هذا الإرث المشترك للحرية الذي يعود الى ألاف السنين”.
الدين ورؤساء أميركا
هذا التيّار القديم في التأثير على رؤساء الولايات المتحدة الأميركية والذي امتد صوب أميركا اللاتينية والغرب وإفريقيا وبعض الدول العربيّة أيضًا، بلغ ذروته مع جورج دبليو بوش في حربه على العراق، ثم مع دونالد ترامب في نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وفي مواجهة إيران وكلّ محورها. ولا ننسى أنَّ الرئيس جو بايدن نفسه يقول إنّه صهيوني حتّى ولو لم يكن يهوديًّا.
يقول الكاتب الأمريكي الشهير بوب وودوورد : إنَّ الرئيس بوش كان يُردّد أنَّ «الرب دعاه ليرشّح نفسه لرئاسة الولايات المتَّحدة في مهمّة تدخل في نطاق الخطة الإلهية لتصدير الموت والعنف لربوع الأرض دفاعاً عن بلده العظيم، وتخليصاً للعالم من رموز الشر، وكان بوش يعتقد أنَّه قَبِل مسؤولية قيادة العالم الحرّ كجزء من خطّة الرب، و قال لمحمود عباس الذي كان رئيسًا للوزراء :«لقد أبلغني الرب بأن أهاجم القاعدة وفعلت ذلك، ثم طلب مني أن أهاجم صدّام حسين ففعلت، وأصبح العراق بابيلون (بابل) الجديدة”
غيبية محور إيران
بالمقابل فإن البُعدَ الغيبيّ هو الذي يُشكّل أحد أبرز قناعات مقاتلي حزب الله ومعظم أركان المحور بقيادة إيران، وهو بُعدٌ عبَّر عنه بوضوح قادةُ الثورة الإيرانيّة. ففي كتابه الحامل عنوان ” الوليّ المُجدّد” ينقل نائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم عن مُرشد الثورة الإسلامية في إيران السيّد علي خامنئي قوله : ” إنَّ تكليفنا أن نُحرّر هذا البلد الإسلامي من سلطة وقبضة القوّة الغاصبة وحماتها الدوليين ونُرجعها إلى شعب فلسطين هو تكليفٌ دينيٌّ وواجبٌ على جميع المسلمين. وإنَّ قضية فلسطين قضيةُ عقيدة وقضيةٌ إنسانية وليست مجرّد قطعة أرض، هي ليست قضيةً سياسية أو قضيةَ نفوذٍ إقليمي ودوليّ، بل قضية إيمان واعتقاد وهي ستتحرّر”.
لا يختلف منطق إيران في هذا البُعد الغيبيّ عن منطق حماس والجهاد والحشد الشعبي وأنصار الله، حتّى في ظل التبايُنات المذهبيّة بين بعض هذه الأطراف.
في مُقابل هذه التيارات المتقاتلة على خلفياتٍ غيبيّة، يغيبُ أي مشروع عًلماني، أو قومي، أو يساري، أو مدني عربيّ جدّي في هذا الصراع العسكري مع إسرائيل، فيُفسحُ في المجال واسعًا لعودة تمدّد تياراتٍ إسلاميّة وربّما بعد حين انبعاث تيّار الاخوان المسلمين، فيما تُركيَّا تراوح بين قناعاتٍ دينيّة من جهة ومصالح دنيويّة من جهة ثانية، ولا يضيرها أن توسّع هذا الهامش (مثلا مع الإخوان المسلمين في مرحلة ما وُصف بالربيع العربيّ)، أو تُضيّقه حين تستعيد التقاربَ والمصالح مع إسرائيل.
الحرب حتميّة؟
أولاً: لأنَّ قدرات المحور بقيادة إيران، على المستويات العسكرية والصاروخية والجويّة (المسيّرات) والتكنولوجيّة، أضيفت إلى خبرة قتالية واسعة على مساحاتٍ شاسعة أكان في سورية أو العراق أو اليمن، وصار بقاءُ هذه الأطراف على قدراتها الحاليّة مُهدّدا وجوديًّا لإسرائيل. هذا مع احتمال أن تكون إيران قد وصلت فعلًا إلى مرحلة تصنيع قنبلة نوويّة.
ثانيًّا: لانَّ الشعب الإسرائيليّ الذي تمت لملمتُه من كل بقاع الأرض، صار وللمرّة الأولى فاقدَ الثقة بجيشِه الذي كان يُعتبر أحد أهم جيوش العالم. كما أنَّ صورة إسرائيل انكسرت فعليًّا في العالم، أولاً كدولة ضعيفة في مقابل شعبٍ مُحاصر لكن مقاوم ببأسٍ قلّ نظيرُه، وثانيًّا كدولة بطشٍ قتلت عشرات ألاف المدنييّن والنساء والأطفال، ولجأت إلى الإبادة والتصفيّة العرقيّة، وفق محكمة العدل الدولية ومؤسسات وشخصيّاتٍ عالميّة.
ثالثًا: لأن أيَّ تسوية سياسيّة مُقبلة ما عادت قادرة على التمرير بسهولة، إذا ما اعترض عليها المحور وقاومها بشكلٍ أو بآخر.
رابعًا: وهنا العودة على بدء، لأنَّ اليمين الإسرائيلي المتطرّف يعتقد بأنّ ما تمرّ به إسرائيل حاليًّا “محنةٌ غيبيّة” سوف يليها الانفراج، بينما المحور المُقابل يعتبر أنّه على مشارف تحقيق نبوءة القضاء على إسرائيل.
قد لا تكون الحربُ الشاملة قريبة، وقد تنجح الوساطات في وقفها في غزّة وبالتالي عند الحدود، وقد يعود العالم الى تسويات. لكنّ الأكيد أنَّ كلّ ذلك سيبقى جمرًا تحت الرماد، ولن يوقف احتمالُ الحرب الشاملة الّا أمران صعبا التحقيق: فإما ينقلب الشعب الإسرائيلي على المتديّنين المتطرفين ويقبل بقيام دولة فلسطينية حقيقيّة مستندا الى هامش واسع من التطبيع مع العرب، أو يتغيّر الحُكم في إيران، وتدخل البلاد في مرحلة تسوياتٍ تُقدّم مصالحَها الداخلية على كل المصالح الأخرى. وهناك احتمالٌ ثالث أضعف يجري العملُ عليه، وهو إعادة تعويم سوريا عربيًّا ولاحقًا دوليًّا، بحيث تعود الى ضبط الحدود ووقف تمرير الأسلحة على ضوء مفاوضاتٍ مع إسرائيل خصوصًا بعد توليّ الأمير محمّد بن سلمان شؤون العرش والانخراط بعملية تطبيع مع إسرائيل شرط دخولها في تسوية حقيقيّة للقضيّة الفلسطينيّة ( وفق الشروط السعوديّة المُكرّرة).
لكن متى ستندلع تلك الحرب الأشرس، وهل تقوم بعدها تسوية، أم يعمّ الدمار الشامل؟ هذا صعب التكهُّن وقد يحدث الآن أو بعد 10 سنوات. ولو عاد ترامب الى السُلطة، فالسؤال يُصبح مُلحًّا حول نزوعه صوب حرب أوسع، أو ميله للتسويات.