هل تسقط الجمهورية الفرنسية الخامسة بصدمة الانتخابات

مرح إبراهيم
رغم المفاجأة التي حقّقها اليسارُ في وجه اليمينِ المتطرّف في الانتخاباتِ التشريعيّةِ مساء الأحد، تبقى الرؤية السياسية في فرنسا ضبابيّةً على المدى القريبِ إلى المتوسّط، لا بل برزت تساؤلاتٌ على نطاق أوسع عمّا إذا كانت الجمهوريّة الخامسة قادرةً على الصّمود بعد نتائج السّابع من تمّوز، حيث وُصِفت فرنسا بـالـ”غير قابلة للحكم”، نظرًا لغياب أغلبيّةٍ واضحة في برلمانٍ مكوّنٍ من ثلاثِ كتل متعارضة وبعيدٍ عن تقاليدِ التّحالفات.
ما أراده ماكرون أن يكون وَضْعُ نقاطٍ على الحروفِ بحلّهِ البرلمانَ في التّاسع من حزيران الماضي، تحوّلَ إلى مشهدٍ ضبابيّ مِنَ المتوقع أن يستمرّ بعدُ ويشلّ البرلمان الممزّقَ بين ثلاث كتلٍ دون أغلبيّةٍ مطلقة : اليسار ( 182 نائبًا)، الكتلة الرئاسية (168 نائبًا) واليمين المتطرّف المتمثل بالتجمّع الوطني (143 نائبًا)، وهي صورة برلمانيّة غير مسبوقةٍ في تاريخ الجمهوريّة الخامسة، حتى لو كانّ نموذجًا قائمًا في بلدانٍ أوروبيّةٍ مجاورة، كبلجيكا وألمانيا وإيطاليا.
ما إن أعلنت نتائجُ الانتخابات التشريعيّةِ مساءَ الأحدِ حتى أعرب زعماءُ الجبهة الشعبيّة الجديدة عن استعدادهم للإمساك بزمام الأمور، فعلى الرّغم من عدم بلوغِ كتلتهم أغلبيّةً مطلقة إلّا أنّها تُعدُّ كافيةً لتشكيلِ القوّةّ الأولى في البرلمان. من ثَمَّ حثّ زعيمُ حزب “فرنسا الأبيّة” اليساريّ، جان لوك ميلانشون، رئيسَ الجمهوريّة على دعوة الجبهة الشعبيّة إلى الحكم. لكن في ظلّ انقسام النسب بينَ ثلاث كتل، يبقى ماكرون صاحب الكلمة الأخيرة، حتى بعد استقالة رئيس الوزراء الحاليّ، وهوَ غيرُ ملزمٍ بتشكيل حكومةٍ جديدة على الفور، وقد يختارُ المماطلةَ بكسبِ الوقت. في الواقع، وردَ عن الإليزيه أن رئيس الجمهوريّة يفضّل أن يأخذ ما يكفي من الوقت للتّمعنِ بالوضع الحاليّ. كما من المقرّر أن يسافرَ اليوم، الثلاثاء التاسع من تمّوز/ يوليو، لحضورِ قمّة الناتو في واشنطن، ولن يعودَ قبل 11 تمّوز إلى باريس.
في هذا السّياق، ونظرًا لعدم توصّل أطراف تحالف الجبهة الشعبيّة الجديدة إلى اتّفاق حول اسمٍ لمنصب رئيس الوزراء، وهم غالبًا ما سيضطرون إلى البحث عن حلفاء جدد في المجلس بحكمِ أغلبيتهم النسبية التّي قد تجعلهم أكثر عرضةً لتصويت حجب الثقة، يبدو تعيينُ رئيسٍ للحكومةِ على الفور صعبًا، ومن غير المتوقّع أن يتكرّر سيناريو الانتخابات التشريعية المبكرة عام 1997، التّي شُكّلت بعدها حكومةُ تعايشٍ خلال أربعة أيام فقط. يعودُ القرار إلى الرئيس ماكرون الذي يتمتّع أيضًا بصلاحيّة اختيار رئيس وزراء آخر من صفوف اليسار، غير الاسم الذي سوف تقترحه الجبهة الشعبيّة.
غير أنّ ماكرون لا يستطيعُ كسب الوقت لفترةٍ طويلة، إذ سوفَ يجتمعُ البرلمانيّون في الـ18 من الشّهر الجاري وقد يقرّرون إسقاطَ الحكومة، كما سيتم الاتفاق على المناصب الرئيسيّة في البرلمان، وهنا ستتواجه الكتل الرئيسية الثلاث باحترام توازن القوى الناتج عن صناديق الاقتراع. سوف يَنتخب النوّاب بعدئذٍ رئيس البرلمان الجديد من خلال اقتراعٍ سريّ، وهوَ عادةً ما ينتمي إلى الكتلة التي حقّقت نسبة التصويت الأعلى في الانتخابات، فيصبح الشخصيّةَ الرابعةَ في الدّولة.
تبدو فرنسا في نظر العالم “غير قابلة للحكم” مع اقتراب الألعاب الأولمبية في باريس، والتي ينبغي أن تُفتتح خلال ثلاثة أسابيع. قد يعتمدُ الخروجُ من المأزق على استعداد الأطراف إلى التنازل والتّسوية، لاسيّما ضمن الجبهة الشعبيّة الجديدة ذات الطّابع غير المتجانس والتي لم يستطع أطرافها التوصّل إلى توافقٍ بعد، بالإضافة إلى عواقب تعيين رئيس وزراء من اليسار المتطرّف في ظلّ الانقسام الرّاهن وتصاعد اليمين المتطرّف الذي شهدته فرنسا. أمّا الاحتمال الآخر، فقد يتمثّلُ بتشكيل ماكرون حكومةً تقنيّةً مؤقتةً، مؤلّفة من خبراء واقتصاديين ودبلوماسيين وأكاديميين، لإدارة الشؤون الجارية.
كلّ الاحتمالات واردة، لكنّ ثمّة إجماعٌ على أن فرنسا تتجه نحو فترة طويلة من التخبّطِ وعدم الاستقرار، ولا يَستبعدُ البعض حدوث أزمة دستورية في الأشهر المقبلة. أمّا اليمين المتطرّف، فمن السّاذج اعتباره تهديدّا مضى والاستهانة بثِقلِه في الأشهر والسنوات المقبلة، إذ باتَ يحتلُّ مكانةً مهمّةً في السياسة الفرنسيّة ويمحو مشهدَ ما بعد الحرب الذي بني حول فكرة أن تاريخ البلاد العنصريّ ينزعُ جدارةَ اليمينِ المتطرّفِ وأحقيّته بتسلّمِ مناصبَ في السلطة. على هذه الحكومة المترقّبةِ أن تسمع رسالة ملايين الناخبين الذين اختاروا اليمين المتطرّف في هذه المرحلة ولا شكّ أنّهم ينتظرون من يستطيعُ مخاطَبَتهم، فقد يكونُ تجاهلهم لصالح حزب اليمين المتطرّف ومارين لوبن في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة 2027.
لا شكّ أنّ تاريخ السّابع من تمّوز غير مسبوقٍ في الجمهوريّة الخامسة وقد يشكّلُ منعطفًا في تاريخ فرنسا السياسيّ، من حيث نموذج السلطات وقوّة الصّلاحيّات في كلّ من السّلطتين، التنفيذيّة والتشريعيّة، خصوصًا أنّ نظام الحكم في فرنسا يتّسمُ بمركزيّة حكم رئيس الجمهوريّة الذي يلعب الدّور الأساس والحاسم. وهوَ أمرٌ تطرّق إليه الزّعيم اليساريّ جان لوك ميلانشون في حملته الانتخابيّة عام 2017، حين تحدّث عن هيمنة رئيس الجمهوريّة على السلطة التشريعيّة، وأزمة الديمقراطية التي تعاني منها فرنسا، واعدًا حينئذٍ بأن يكون رئيسَ الجمهوريّةِ الخامسةِ الأخير، ستّونَ عامًا بعد رئيسها الأوّل شارل دو غول.