المُفكّر المغربيّ حسن أوريد: الشعبويّة والاستبداد واحد
القسم الثقافي-لعبة الأمم
في المملكة المغربيّة عادة علميّة لافتة، حيث أنَّ المعهد المولويّ المُخصّص لتعليم أبناء العرش من الأميرات والأمراء، يُفسح في المجال أيضًا لطلاّب متفوّقين يتم اختيارُهم بدقة وبشروط خاصّة ليكونوا رفاق الدراسة والثقافة مع أبناء الملك وعائلته. وقد كان لتفوّق الفتى حسن أوريد نصيبُه في ذاك المعهد الذي يضمّ كبار الأساتذة وأعرقَهم في مجالاتٍ شتّى. كان له نصيبُه أيضًا من علاقةِ صداقةٍ مع وليّ العهد آنذاك الأمير محمد السادس، حيث أكملا الدراسة معًا في كليّة الحقوق في جامعة محمَّد الخامس، ثم أكمل حسن أوريد تحصيلَه بشهادة دكتوراه نالها بتفوّق في العلوم السياسية وكان عنوانها ” الخطاب الإحتجاجيّ للحركات الاسلاميّة والأمازيغية في المغرب”.
يعرف حسن أوريد تمامًا المجتمعَ المغربي بعمقه الإسلامي وتنوّعه العربي-الأمازيغي، فهذا المثقّف الاستثنائي المولود في صيف العام 1962 في قرية “تازموريت” ذات العراقة الأمازيغية ( أو البربرية كما نقول في مشرقنا العربيّ)، والواقعة في جنوب شرق البلاد، ترعرع في إطار التنوّع الثقافي والعرقيّ بين أبٍ ينتمي الى منطقة الصحراء وأم أمازيغيّة، كانا متواضعي الحال لكن توّاقَين لرؤية ابنهما بين عليّة القوم.
وقد صار حسن أوريد فعلاً في عليّة القوم، فتولّى منصب الناطق الرسميّ باسم القصر الملكي، أي باسم صديقه الملك محمَّد السادس، الذي منذ توليّه العرش أبدى نزوعًا صوب الانفتاح والقرب من شعبه، وكثيرٍ من الحريّات التي عزّت طويلاً في عهد والده الراحل الملك الحسن الثاني،َ خصوصًا بعد محاولتي الانقلاب اللتين تعرّض لهما في مطلع السبعينيات. وسبق ذلك أن تولّى حسن أوريد المتقن للفرنسية والإنكليزيّة إضافة طبعًا للعربية مهامًا دبلوماسية رفيعة، في وزارة الخارجية أو في المستشارية السياسية للسفارة المغربية في واشنطن أو كمحافظ لمكناس تافيلالت.
بين كلّ هذه الوظائف وغيرها، بقي حسن أوريد توّاقًا ككلّ المثقفين الطليعيّين الحقيقّيين للثقافة والفكر ونقد التاريخ العربيَ والإسلاميَ وتصحيح ما فيه من خلل وأوهام. وغالِبًا ما وضعته أفكارُه ومؤلفاتُه في مواقف جدليّة بقدر ما وفّرت له شعبية خاصّة بين المثقفين ، فكتب عن الإصلاح والإسلام السياسي والحركات السياسية والقوميّة وأوهام العمل السياسي والتاريخ وغيرها.
وها هو يُتحفُنا اليوم بمؤلفٍ جديد، سيكون حتمًا بين أبرز المؤلفات الاجتماعية والسياسيّة لعصرنا، ذلك أنّه يُعالج بدقة فكرة ” الشعبويّة” التي صارت لغة العصر ليس في وطننا العربي فحسب، بل على مستوى العالم، ألم يكن مثلا دونالد ترامب وإيمانويل ماكرون وكبار قادة اليمين المتطرف في العالم اليوم نتاجًا لهذه الشعبويّة، ألم يكن خروج بريطانيا من البريكس نتيجة لخطاب شعبويّ أيضًا؟
نقرأ على الغلاف الخارجي للكتاب الجديد ” إغراء الشعبوية في العالم العربي الاستعباد الطوعي الجديد ” أنّ العالم العربي استنفد السَّرديّات الجامعة، من قوميّة عربيّة، إلى إسلامٍ سياسي، فانتشاءٍ خلال «الربيع العربي»، لكنّه مُني بإخفاقٍ في مسْرى كلّ موجة، لكي لا يلقى من بديلٍ لهجير الكبوات سوى سراب الشعبويّة. وهل يكون الدواء من صميم الداء: الهروب من رمضاء تشوُّه السياسة، وكساد الاقتصاد، وكبوة الثقافة، إلى هجير الشعبويّة؟ لا بديل يلوح في أفق العالم العربي، سوى السلطويّة متلفّعةً بلبوسٍ شعبوي، أو بتعبيرٍ أقلّ حذلقةً، إلى استعبادٍ طوعي، تقود الجماهير نفسها إليه حتف أنفها. وكيف يمكن أن تكون مجتمعاتٌ فاعلة، وهي تحت النيْر؟ كلّ القوى التي استندت إلى حضارة، شقّت طريقها بعد إذِ انعتقت من نير الاستعباد وإصر الإذلال، كما الصين والهند… وحتّى قوى هي نتاجٌ لقوّة دفع الحضارة الإسلاميّة، كما إيران وتركيا، أصبحت نافذة. فلماذا تقدّم غير العرب ولم يتقدّم العرب
يرى الكاتب أن الشعبوية والسلطوية والاستبداد في العالم العربي تعبيرٌ عن حقيقة واحدة، وهو ما أسماه التونسيون مثلا “الشعبوية السلطوية” فهذه الشعبوية تجد تبريرها في أنّها تحفظ الأمن أو ما يسميه أوريد ب ”العقد الاجتماعي الهوبسي المستند الى فكرة أن الأمن أولا والأمن أخيرا”.
يرى حسن أوريد أن الشعبوية هي خيارٌ غير واعٍ ، وأنها جاءت نتيجة فشل الخيارات الأخرى، ذلك أنَّ الجماهير يئست من الأدوات والخطابات الحزبية البائدة ، وهي بالتالي ظاهرة عرضيّة أو مرضية أكثر ممّا هي ديماغوجية، وهناك فرق كبير بين الظاهرة والأسلوب يجب عدم خلطهما.
حين نقرأ هذا الكتاب القيّم نفهم أن الأحزاب السياسيّة بمعناها وخطابها وأهدافها وأدواتها التقليديّة قد انتهت، وتم استبدالُها بتعابير أخرى من خارج البناء الحزبي المعهود ، فقد تخطّاها التعبير في الشارع او الغرافيتي أو شبكات التواصل الاجتماعي ، ما خلق أسس الشعبوية أو ما يسمّيه الكاتب ب ” الشعبويّة الأولى” التي تنتقل لاحقًا إلى شعبويّة كاملة.
إنّ مفهوم الشعبوية، الذي تحدث حسن أوريد في إصداره الأخير الذي يحمل عنوان “إغراء الشعبوية في العالم العربي الاستعباد الطوعي الجديد” إنما هو دراسة تدخل في إطار العلوم السياسية والإجتماع حول العالم العربي، وهو كتابٌ تشريحيّ بامتياز، يوازي كتب كبار المفكّرين في الظواهر التي ميّزت مراحل كثيرة من البشرية. ولعلّه مُحقٌ تمامًا في وسم هذا العصر بسمة الشعبويّة التي تنزع صوب إستبدادٍ حقيقيّ لا يُمكن لجمُها الا بالعودة إلى أصالة الفكر وحكمة السياسة وعمق الثقافة والفكر.