آخر خبرمقال اليوم

الصمت في مواجهة صهيونية زائلة أشد فتكًا من الحرب

                                                   الصمت في مواجهة صهيونية زائلة أشد فتكًا من الحرب

 أيمن مرابط –  الرباط

لم تنتهي مشاهد القتل والدمار والإبادة بعد في غزة، ولن تنتهي إطلاقا مادام قرار قتل البشر وتدمير الحجر وحرق الشجر وهدم الحضارة والإنسانية أمام مرأى أعين العالم هو متفق عليه من دول كبرى، في سوق تجارة مربح بالنسبة لتجار الحروب في “تل أبيب” وواشنطن وآخرون في سوق تباع فيه الدماء وتُشترى اسمه “المجتمع الدولي”.

حرب غزة، أكملت ثمانية أشهر، جُربت واستُخدمت فيها كل أشكال وأنواع الأسلحة الجديدة والقديمة، الثقيلة والخفيفة، وما تُسمى زورا “المحرمة دوليا” التي صُنعت بأيدي محسوبة على البشر، وكأن هناك فرق بين الأسلحة المحرمة وغير المحرمة، ربما الأولى تقتل ببشاعة وتشوه الأجساد والثانية تقتل بطريقة مغايرة متفق عليها، أو حين تسقط تلك “المحرمة” فوق رؤوس المدنيين العزل تفتك بيهم على حين غرة وغير “المحرمة” تخبرهم بنزولها عليهم، تعددت التقسيمات السخيفة واختلفت المسميات الباطلة للأسلحة لكن عنوانها واحد، القتل والإبادة.

وصلت الحرب إلى أقصى مستويات الإبادة الجماعية، وباتت تفوق في حجمها ما ذُكر وكُتِب في المصادر والمراجع التاريخية التي أرّخت لكبريات المجازر التي شهدتها البشرية عبر القرون، ولا تزال مستمرة حتى القرن 21 ولا أحد يدري متى ستنتهي، وتستمر آلات القتل على اختلافها في إراقة الدماء حتى أضحت أنهارا في شوارع المدينة المُحاصرة.

من خلال حرب غزة، علمنا جيدا أن آلات القتل والدمار ليست هي الأسلحة المتطورة والقنابل الذكية والصواريخ الأمريكية أو الإسرائيلية وما تصنعه شركات السلاح العالمية متعددة الجنسيات وتصدره ل”إسرائيل” فحسب، التي إن لم تقتل الشخص فهي تُصيبه بعاهة مستديمة أو بأمراض السرطان بعد مدة،  بل ثمة آلات أشد فتكا وفظاعة هي الصمت والتآمر والخذلان والتطبيع مع مشاهد القتل المروعة كأنها مسرحية واقعية.

صحيح أن ما شاهدناه في السابع أكتوبر كان غير مسبوق في تاريخ القضية كلها، شجاعة وإقدام مقاتلي الفصائل الفلسطينية في اقتحام ثكنات غلاف غزة والمستوطنات والمدن المحتلة قُوبلت باستسلام غير متوقع وفضحت هشاشة دولة تكاد تنفجر لوحدها جراء تكدس أسلحة العالم في مخازنها بالثكنات والمطارات العسكرية، بينما حجم الصمت المطبق على فظاعة ردة الفعل “الإسرائيلية” ليس فقط غير مسبوق بل كارثة بشرية إنسانية تطرح آلاف الأسئلة الجوهرية حول السبب الذي أوصل العالم لهذا الحال.

تُبرهن الأحداث اليومية للحرب المستمرة لمن لم يعرف بعد، أن الشعب الفلسطيني هو أكثر شعوب الأرض دفعا لثمن تحرير أرضه ومدنه وشوارعه ومنازله، مساجده وكنائسه، جباله وأنهاره ووديانه وأشجار الزيتون الصامدة، تاريخه وذاكرته، حاضره ومستقبله، على مدى 75 عاما كان ولا يزال محرما عليه وعلى الشعوب مثله الحرية والكرامة والأمان، كأنه يشكل خطرا على العالم أو على الكون، وذنبه في هذا كله، ربما هو الجغرافيا وموقع بلادهم في الخريطة، أو هو رغبة دول محددة أرادت في زمن سابق التخلص من عرق اسمه عرق اليهود، فوجدت في أرض فلسطين المكان الأنسب لتضرب عصافير متعددة بحجر واحد.

ليس سهلا تحرير الأرض والبلاد على شعوب تفككت هوياتها على مدى قرن وأكثر من الزمن، تشتت أفكارها وعقليتها حول أسئلة كيفية التحرير حتى ما عادت قادرة على رسم الطريق المثالي للتحرير، هل تتحرر بالسلاح فقط؟ أم لابد لها أن تبني نموذج فكري وثقافي وحضاري على مدى عقود؟ أم تستورد النماذج من دول أوروبا التي استعمرتها سابقا؟ أم تستسلم للأمر الواقع وتزهد في حقها التاريخي مقابل حياة وعيش منقوص.

خلال أزيد من ثمانية أشهر، اتضح جليا زيف عدة مفاهيم لُقبت على مدى قرن من الزمن ب “الكونية” و”العالمية” و”الإنسانية”، من بينها القانون الدولي وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير والحرية والحماية الدولية- وغيرها…، ذلك أن ثمة شعب، بل شعوب كاملة في الكرة الأرضية مستثناة من هذه المفاهيم أو القيم أو المبادئ “الإنسانية”، لا يحق لها التمتع بها أو أن تُفكر فيها حتى، هي غير موجهة لها في الأصل، منذ البداية كانت خطابات الحرية والتحرر والحداثة والسلام على طريقة صانعيها غير موجهة لشعوب “الجنوب” أو “العالم الثالث” كما سُميت من خلال التقسيم التاريخي لهذا العالم.

كشفت هذه الحرب المبيدة للبشر والشجر والحجر، أن صنم الصهيونية كما وصفته الأكاديمية الكندية نعومي كلاين المناهضة لإسرائيل، قد حان الوقت لإزالته، رغم استماتة صناعه في الدفاع عنه بكل ما يملكون من الوسائل، وازياد أعداد العابدين له والمؤمنين بفكرته والراغبين في خدمته تحت “رحمته”، هذا المشروع الذي بات صنما غير قابل للاستمرار إلا عن طريق القتل والدمار وانعدام الأمن في كل العالم سينتهي حتما وصانعيه والمتشبثين به، وما عاد لهم كلهم من العمر أكثر مما فات.

ما يحدث اليوم في الجامعات الأمريكية والأوروبية العالمية، قد يكون مؤشر على بداية انهيار الصنم الأكبر، وإن كان من المبكر الحديث عن هذا الأمر أو حسم نتيجته من الآن، وربما سيكون من الخطأ تشبيهه بما حدث خلال حرب الفييتنام والقول بأنه ستكون له نفس النتائج السابقة، وذلك لاختلاف الظروف السياسية الدولية والاختلاف الجوهري بين القضيتين، بيد أن حجم الاحتجاج وشكله والطبقة النخبوية المشاركة فيه من طلبة وأساتذة وعلماء جامعيين يدل على أن السيل هناك، بلغ كل الزبى، في الولايات المتحدة، في دول أوروبا، في معقل صناع الصهيونية، من حيث أتى الصنم وظهر سينهار ويُدمَّر.

كل هذا، ولا يزال الكثير من الغموض يلف حول هذه الحرب المجنونة، من بدايتها ونهايتها غير المعروفة، لكن ما هو معروف أن تغييرا في الخرائط الكبرى حدث منذ أول طلقة قبل ثمانية أشهر، ولا تزال عملية رسمها بدماء أبناء الأرض مستمرة إلى أن يزول من لا يملك الحق ولا الأرض ولا التاريخ منها إلى الأبد.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button