الثوب الفلسطيني قضيّة هويّة تعود إلى 5000 عام
روزيت الفار-عمّان
ينتمي الزّيّ الشّعبي الفلسطيني للزّي الشّعبي لمناطق بلاد الشّام، ويشكّل جزءاً مهمّاً من تراثها، ويعتبر نتاجاً حضاريّاً، منذ زمن الكنعانيّين، لتراكمات من أعمال الجدّات والأمّهات اللّواتي اعتدن صنع ملابسهنّ بأنفسهنّ من نسج وخياطة وتطريز، وقمنَ بتعليمه وتوريثه لبناتهنّ وحفيداتهنّ بكلّ صبر وحبّ. فسرعان ما كانت الفتاة تعرف مسك الإبرة، حتّى تقوم الأمُّ أو الجدّة بتعليمها هذا الفنَّ حتّى تتقنه، ولتبدأ الفتاة بعدها بعمل ما يلزمها من قطع وأثواب؛ تجمعها وتحتفظ بها ليوم الزّفاف.
وهكذا، انتقل فنّ التّطريز الفلسطيني عبر الأجيال ميراثاً لا يفنى ولا يموت، بل روحاً تكبر وتطمح وتستمدّ الحياة من الرّوح الّتي صنعته.
كان للحسُّ الفنّي الّذي تمتّعت به المرأة الفلسطينيّة، والمتأثّر بتذوّق الطّبيعة الجميلة وحبِّ الأرض والانتماء لها، تأثيرٌ في تميّز أعمالها وغناها. فقد مزجت هذا الحسّ في جميع ما نفّذته؛ وطرحته بقالب مُتقن وأنيق.
ترتبط بدايات فنّ التّطريز الفلسطيني بالكنعانيّين. حيث وُجِدت بعض الصّور والرّسومات الّتي أظهرت ملابس ملكات الكنعانيّين تحمل الأشكال والنّقوش ذاتَها الموجودة في وقتنا الحاضر؛ بما فيها الاستخدام المشترك للحرير.
الثّوب الفلسطيني هويّة شعب. ويشكّل جزءاً أساسيّاً من تراثه على امتداد تواجده في فلسطين التّاريخيّة. بحيث يمثّل كلُّ ثوب جزءاً من هذا التّراث سواء كان مدنيّاً أو قرويّاً أو بدويّاً. كذلك يتنوّع تبعاً لجغرافيّة الأرض وتنوّع واختلاف العادات والتّقاليد فيها. فالتّراث بالمناطق الجبليّة يختلف عنه في المناطق السّاحليّة، وهذا بدوره يختلف عمّا هو في المناطق الصّحراويّة. فحين تميّزت أثواب نساء المدن ومناطق الوسط وبدو الجنوب بكثافة التّطريز، كاد ذلك يختفي بأثواب المرأة بالمناطق الزّراعيّة؛ لضيق وقتها الّذي يسبّبه انشغالها بالأرض.
تتنوّع الأقمشة والموديلات ونوع الغُرزة تبعاً لفصول السّنة وعمر المرأة وطبيعة المناسبة. فلكلِّ فصل وعمر ومناسبة؛ قماش وشكل وتطريز وخيوط وألوان خاصّة بها. فأتت تلك الاختلافات والتّنوّعات لتمنح الرّائي قدرة تحديد المنطقة الّتي ينتمي إليها كلُّ ثّوب.
أمّا تعليق النّقود المعدنيّة الذّهبيّة والفضّيّة على لباس الرّأس المطرّز أو “الشّطوة”، فكانت إحدى دلائله، تسلّم المرأة لمهرها في ليلة زفافها، وإضافة الزّنّار كانت لإظهار جمال قوامها وغيِّها وتباهيها.
وهناك ما يسمّى “بالزّخارف”، والّتي تحمل رموزاً أسطوريّة تعود للحضارة الأصل (الكنعانيّة)، توارثها الشّعب الفلسطيني كجزء من تاريخه، تكون على شكل نباتات أو زهور أو شجر أو طيور أو ثعابين يغلب عليها جميعاً الّلونُ الأحمر. فكنعان يعني أُرجوان. وتختلف درجاته من مكان لآخر. فثوب غزّة يميل للأحمر البنفسجي. وبيت لحم ورام الله للأحمر القاني أو الخمري، ويافا وحيفا وبئر السّبع للأحمر المائل للبرتقالي. أمّا الخليل فإلى البنّي.
*يذكر المؤرّخون أنَّ “الفينيق” هو الإسم الّذي أطلقه الإغريق على الكنعانيّين. حيث تعني لديهم كلمة Phoenix، “الشّعبَ الأحمر الأرجواني” نسبة للون ملابسهم الّتي كانوا يصرّون على صباغتها بهذا اللّون.
كانت القرويّات والبدويّات يطرّزن بخيوط الحرير المذهّبة والفّضيّة منطقة الصّدر والأكتاف والجوانب والأكمام. وكان يمكن تحديد القرية الّتي تنتمي إليها كلّ امرأة من خلال الرّسوم ووحدات التّطريز وطريقة تنسيقها.
تُميّز الأزهارُ وأوراق الشّجر المطرّزة بخيوط حمراء وزرقاء أثوابَ الجليل بشمال فلسطين. ويقلُّ التّطريز وتُزيَّن الأثواب بشرائط ملوّنة في قرى نابلس وطول كرم. أمّا في بيت لحم، فتُستخدَم خيوطٌ مذهّبة وفضّيّة في تطريز زخارف نباتيّة وتصاميم على شكل الحُلي.
وفيما يتعلّق بالأشكال والرّسومات، لجأت نساء الخليل إلى استخدام أشكال العنب والزّيتون لتميّيز أثوابهن. وفي بئر السّبع -حيث تقلّ الأشجار- استوحت النّساء نقوش ثيابهنّ من السّماء وزيّنّها بأشكال النّجوم. أمّا الثّوب المقدسي؛ فيمتاز بوجود رموز وأثار لجميع العصور الّتي مرّت على المدينة. فكثرت فيه الرّسومات والتّطاريز، للدّلالة على رفاهيّة المرأة ومكانتها الإجتماعيّة. فعلى الصّدر نرى ملكات الكنعانيّين، كما ويظهر الهلال والآيات القرآنيّة كدليل على عودة المدينة للحكم العربي الإسلامي. وفي البعض الآخر، يتّضح الحزن والحنين عبر اختفاء الألوان الفرِحة والزّاهية.
ارتدت نساء بيت لحم ثوباً أسودَ غنيّاً بالتّطريز وبأكمام تتّسع في نهايتها وتأخذ شكل المثلّث وتسمّى “ردان” ويكون عادة مطرّزاً بخيوط حريريّة فضّيّة ومذهّبة.
أمّا ثوب نابلس؛ فشبيه بملابس أهل دمشق، ويعود السّبب إلى الطّبيعة المدنيّة والتّجاريّة الّتي كانت تميّز العلاقة بين نابلس ودمشق وحلب. ويتميّز بخيوط الكتّان والحرير والخطوط الحمراء والخضراء والشّال والرّبطة. وترتدي النّساء العباءة السّوداء ويحجبن وجوههن بملاءة تخفي ملامحهن.
ويافا، الّتي تتميّز بالبيّارات والبساتين، فثوبها يزهو بأشكال زهر البرتقال واللّيمون المحاط بخضرة البساتين وشجرة السّرو. ويتأثّر الزّي اليافوي بالزّيّ التّركي إذ يظهر الجاكيت والتّنورة على الطّريقة التّركيّة المطرّزة بالإضافة لخمار الوجه، وهو مزيج من الصّبغة التّراثيّة والحضريّة.
ويعتبر ثوب مدينة أريحا من أقدم الأثواب الفلسطينيّة، حيث عرفه الكنعانيّون منذ حوالي 5000 سنة، ويمتاز بالخطوط الطّوليّة والزّخارف المرتبطة بالآثار الحفريّة الّتى وُجدت هناك. اعتادت النّساء ارتداءَه عند تقديم الهدايا للفراعنة في المناسبات الاجتماعيّة.
استوحى الثّوب الفلسطيني ألوانه من الطّبيعة المحيطة. فأخذ اللّون الأصفر من الزّعفران الّذي كان يزرع بمناطق عديدة، والبُنّي من لحاء الشّجر. ومن نبات النّيلة أُخذ الأزرق، ومن حيوانات الموريكس الصّدفيّة -الّتي كانت تُجلب من ساحل البحر المتوسّط- جاء اللّون الأحمر الأرجواني الّذي يُعزى إلى الإله الإغريقي هيراكليس. (ويُروى بأنّه حين كان يمشي على الشّاطئ مع تيروس الحوريّة، اكتشف كلبُه صدف الموريكس Murex ومضغها، فتلوّنت أسنانه باللّون الأرجواني. أُعجبت حوريّته بهذه الصّبغة وطلبت من هيراكليس أن يُنفّذَ لها ثوباً من هذا الّلون.)
شكّل الزّواج المختلط بين رجال وفتيات المدن والقرى المختلفة، كما أيّام الأعياد والتّسوّق، وخصوصاً بعد تطوّر وسائل المواصلات، فرصةً مثاليّة لخروج النّساء والالتقاء بأهالي المدن والقرى الأخرى والتّعرّف على نماذج ورسومات وغرز جديدة للتّبادل، ممّا منحهنَّ مساحة أوسع للاختيار في تنفيذ العمل.
وعبر الأجيال والتّطوّرات، فقد أكسبت التّغييراتُ البسيطة الثّوب الفلسطيني رونقاً متجدّداً أرضى رغبة النّساء في خلق عالمهنَّ الجمالي دون المساس بأصالته ومدلولاته. لكنّه، وكغيره من أشكال التّراث، لم يسلم هذا الثّوب من محاولات السّطو والسّرقة والطّمس والادّعاء بأنّه أحد الموروثات الإسرائيليّة. فكان هناك مناسبات عديدة قامت فيها نساء إسرائيليّات بارتدائه، وكذلك اعتُمِد كزيٍّ مضيفات لشركة طيران العال ولمشاركات اسرائيليّات في اختيار ملكات جمال العالم.
لا تزال معركتنا الثّقافيّة والحضاريّة قائمة مع المُحتلّ بدرجة لا تقلّ شدّة عن معركة السّلاح التّقليديّة. ولا زلنا وسنبقى نقاوم، حتّى التّحرير.
وليس أفضل للختام من قول الكاتب الكبير جبرا إبراهيم جبرا “إنَّ الثّوب الفلسطيني يمثّل بمجموعِهِ فرحاً بالحياة وإقبالاً عليها وتجاوباً معها، حتّى يكاد يبدو وكأنّه وليد طقوس هي طقوس الخصب ورفض الموت والتّهليل لقوى الانبعاث في الإنسان كما في الزّرع والضّرع. فما نقشته المرأة الفلسطينيّة وطرّزته سواء لنفسها أو لغيرها، إلّا وكانت تحتدم بعملها حسّاً بروعة الوجود وغزارته. إنّ هذا التّطريز فنٌّ أبدعه حبٌّ عارم لكلّ ما هو حيّ ويحقّ للفلسطيني أن يفاخر به العالم.”
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…