شبَح الإسكندر الأكبر في غزة
شبَح الإسكندر الأكبر في غزة
جان بيير فيليو
ترجمة : مرح إبراهيم
علينا، بلا شك، أنْ نستعيدَ حصار الإسكندر الأكبر القاسي لغزة عام ثلاثَمئةٍ واثنينِ وثلاثين [332] قبل الميلاد، لكي نكتشِفَ مأساةً لا تقِلُّ هَولاً عن مأساة غزَّةَ اليوم، كما يُبيِّنُ المؤرِّخ جان بيير فيليو.
شَيَّدتْ واحةُ غزَّةَ ازدهارَها وتألّقها، التاريخيَّين، على موقعها الاستراتيجي الذي يُكوِّن مُفترَق طرُق تجاريّاً بين المَشرِق ومصر، فضلاً عن كونها منفذَ القوافِلِ القادمة من شبه الجزيرة العربية إلى البحر الأبيض المتوسط. وإثْر إقامة دولة إسرائيل عام ألفٍ وتسعِمائةٍ وثمانيةٍ وأربعين [1948]، تحوَّل هذا المُفترَق إلى “قطاع غزة” الذي تبلغ مساحته ثلاثَمئةٍ وستّين [360] كيلومتراً مربعاً، تحده من الشمال والشرق خطوط وقف إطلاق النار الإسرائيلية/المصرية، ومن الجنوب الحدود المرسومة عام 1906 بين فلسطين العثمانية ومصر التي كانت تحت الاحتلال البريطاني.
هكذا صار ملتقى الطرق “قطاعاً”، حيث هُجِّر إليه مائتا ألف لاجئ فلسطيني، طُرِدوا من منازلهم إثر تأسيس دولة إسرائيل، غامِرينَ ثمانين ألف نسمة من السكان المحليين. وقد أجبرهم اتساع صحراءِ سيناء المصرية الهائل على البقاء هناك.
مع اكتظاظ ربع سكان فلسطين العرب في منطقة لم تكن تمثل سوى 1% من أراضيها التاريخية، كان من الطبيعي أن تتحوّل غزة إلى معقل القومية الفلسطينية وبوتقة مقاتليها، أعني الفدائيين.
احتلت إسرائيل المنطقة مرتين قبل الصراع الرّاهِن: احتلتها أربعة أشهر بين عامي 1956 و 1957. كانت غاية هذا الاحتلال الدمويّ العنيف “القضاء” على الفدائيين. ثم أعادت احتلالها بين عامي 1967 و2005. حينئذٍ كان الاحتلال مكلفًا إلى حدٍّ دفعَ إسرائيل إلى الانسحاب منها. مما أضعف السلطة الفلسطينية بدلاً من تقويتها، وأدى إلى سيطرة حماس على غزّة. فسارعت إسرائيل، عام 2007، إلى تصنيف القطاع بأنه “كيان إرهابي”، وبالتالي فرضت عليه حصاراً خانقاً، ما زادهُ الهجومُ الأخير إلّا تفاقُماً وخُطورة.
تأرجُح غزّة بين الإمبراطوريات
منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، كانت غزة قاعدة غزو الهكسوس لمصر، القادمين من المشرق، قبل أن يقلب فراعنة طيبة الموازينَ بالاستيلاء على المَشرِق انطلاقاً من غزة. استمر توازن الإمبراطوريات هذا في معارك غزة التي شهدت حروب الفراعنة مع الآشوريين والبابليين على مرِّ القرون.
حصّنَ كورش الكبير، عام 539 قبل الميلاد، غزة جاعلاً منها حاميةً فارسية على أبواب مصر التي استولى عليها خليفته قمبيز عام 525. في القرن اللاحِق، أطلق المؤرخ اليوناني هيرودوت على غزة اسم “كاديتيس”، مُفيداً أنّ “ملك العرب” يحكمها، ويُسيطر على “مراكز التجارة البحرية” فيها. ربما كانَ العرب المعنيون هنا مرتزقة جنّدهُم الفرس، مع احتفاظهم بحكم “ملكهم” الذاتي الغامض.
عام 333 قبل الميلاد، سحق الإسكندر المقدوني الجيوش الفارسية في إسوس، قربَ أنطاكية، وفتح أبواب سورية والطريق إلى مصر. لكن الحامية الفارسية في غزة، بقيادة “الملك” باتيس، المعززةَ بمرتزقة عرب، رفضت الاستسلام، وأعاقت تقدم المقدونيّين نحو مصر. كان هذا بداية حصار دام ثلاثة أشهر، قاده الإسكندر نفسُه، عام 332، حتى إنّه أُصيب بجروح مرة واحدة على الأقل.
عمليات التقويض والتقويض المضاد، المُرهِقَة
أعاقت تربة غزّة الرملية المحيطة، الغزاةَ من استخدام آلات الحصار التي حققت لهم نصرًأ سريعًأ في المعارك السابقة. اضطر الإسكندر إلى حفر الأنفاق، كما ينقُل المؤرِّخ الروماني كوينتوس كورتيوس: «أفسحت الأرض، السهلة والخفيفة، المجال لهذا العمل غير المرئي، لأنّ البحر المجاور يقذف كثيراً من الرِّمال. فَلا الحجارة ولا الصخور تعيق المناجم» لكن المدافعين عن غزة كانوا يُتقنون أسلوب الحرب هذا منذ فترة طويلة، ومن ثَمَّ عملياتُ التقويض والتقويض المضاد المرهقة.
لم يتمكن الإسكندر من إعلان انتصاره إلا بعد مئة يوم، حيث أحضر باتيس مقيدًا بالسلاسل أمامَه. لكن زعيم غزة رفض الركوع، فأثار غضب الفاتح. ثُقب كعبا باتيس ورُبِطا بحزام، وجُرَ جسده خلفَ عرَبةٍ حول أسوار غزة. ذُبِحَ ذكور المدينة المشتبهين بالمشاركة في القتال بعد فترة طويلة من انتهاء الأعمال العدائية، على حين أنّ النساء والأطفال باتوا عبيداً.
ملاً نهبُ غزة عشر سفن بالغنائم التي حُمِلَت إلى مقدونيا. وبحسب المؤرخ اليوناني الروماني بلوتارخس، أرسل الإسكندر عشرة أطنان من البخور وطنين من المر إلى معلمه الوحيد ليونيداس. سُلّمت المدينة، المنهوبة والمفرّغة من سكانها، إلى المستعمرين اليونانيين الذين أعادوا بناءَها تدريجيًا وحوّلوها إلى مركز من مراكز الثقافة الهلنستية.
واليوم، تبدو أيّةُ مقارنةٍ مغرضةٍ بين غزّةَ في الماضي ومأساةِ غزةَ الراهنة في غير محلِّها. ولئن عانت غزة الأمرَّين من الصواعِق الإمبراطورية منذ ما يربو على ألفيِّ عام، فذلك لأنها كانت مُفترَقَ طرق يتنازع عليه جميع الغزاة، بينما باتتِ اليومَ سِجناً محاصراً منذ أكثرَ من ستةَ عشرَ عامًا. يتجلى ذلك في حجم الثروات التي نهبها الغزاة المقدونيون من غزة، التي ينتشر فيها اليوم الجوعُ والمرضُ وشُحُّ المَوارِد.
لكنّ زمن الإسكندر الأكبر، لم يعرِف أمماً مُتحدة، ولا لجنة الصليب الأحمر، الدولية، ولا حقوق الإنسان، ولا الضمير عالمي، ولا قنوات إخبارية التي تبث على مدار الساعة، ولا وسائل التواصل الاجتماعي. فحينذاك رمال غزة وحدَها هي التي كانت مائرةً. فلا الحجارةُ ولا الصخورُ بقادرة على الوقوف في وجه الألغام…