قلقُ الحبّ (قصّة قصيرة)
كان نبيل يُشاهد الحربَ على شاشة التلفزة أمامَه، أو لعلَّه كان ينظرُ إلى الشاشة دون تركيز. ثمة شيءٌ آخر يُقلقُه عميقًا، وكأنّما الحربُ الدائرةُ في داخلِه أعنفُ من تلك التي يراها أمامَه ولا يراها. يُقلِّبُ شاشةَ هاتِفه بين فينة وأخرى، يتوقّف لبُرهةٍ عند رسالةٍ أو خبرٍ أو صورة، ثم يُطفئ الهاتف ويعود إلى التأمُّل في أخبار التلفزة.
يأتي صوتُ لينا من المطبخ ليقطعَ عليه تفكيرَه. لكن أيَّ تفكير؟ فهو لم يتذكّر شيئًا ممّا كان يُفكّر به. لا يعرفُ اصلاً بماذا يُفكّر، فالصورُ نفسُها تتكرّر على الشاشة منذ ثلاثة أسابيع، ولكن بعُنفٍ أكبر، والتهديداتُ تتقاطر من كلّ حَدَبٍ وصوب مُنذِرَةً بالأسوأ، وصوتُ السيّدة المتسوّلةِ يَصدح ككُلّ يومٍ مُنذ خمسِ سنواتٍ بأنَّ ابنَها سيموتُ إنْ لم تَحصُل على حَسَنَةٍ لوجه الله. لا ابنُها مات، ولا هي توقّفت عن الاحتيال وعن الصُراخ بصوتِها الهارب من جسدِها الرافل باللحوم والشحوم.
تضحك، فيُضيءُ المكانَ، وجهُها الراشحُ بكلِّ مخزونِ المحبّة والحنان والعشق. يُحاولُ أن يُجاريَها بابتسامةٍ ترتسِمُ بصعوبةٍ على شفتَيه. يشعرُ بأنَّ حلقَّه جفَّ وكأنّه لم يشرب ماءً منذ دهر. يأخذُ هاتفَه ثانيةً، يُقلّبُ شاشتَه، يتوقّف لبُرهةٍ عند رسالةٍ أو خبرٍ أو صورة، ثم يُكمل تأمُّلَ التلفاز.
تتعرّق يداه، ويشعرُ بضيقٍ في التنفس أو الصدر، يمسحُ العرقَ بمنديلٍ يستخدمُه عادةً لتنظيفِ نظّارتَيه، يشربُ قليلاً من الماء، يُتمتِم بعضَ المعوّذات، ثم يستلقي على الكنبةِ الوثيرةِ، فينتبه إلى أنَّ القنديلَ العتيقَ المُعلّق فوق رأسه يترنّح على وقعِ النسمات الواصلة إليه من المُكيّف المجاور له. يزيحُ من تحته خشيةَ سقوطِه، ثم يقفُ على الكنبةِ يُنزلُه من مكانه الذي علّقه فيه منذ ستِ سنواتٍ ولم يسقط، ويضعه على الطاولةِ أمامَه كأنّه يُراقبُه بحَذَر.
لم تكن لينا تُحبّ القنديل أصلاً، وغالبًا ما كانت تُخاطبُ نبيلَ ضاحكةً: ” لو أنّي تعرّفتُ عليكَ في حينه، لما تركتُك تُعلّقه هُنا، فهو غيرُ متناسِقٍ أبدًا مع أثاث الشُرفة”، ويجيبُها بدهائه المعهود:” أنتُنَّ النساء هكذا، لا شيء يُعجبكُم من فعلِ الرجال، وتُريدون تغيّيرَ كلّ تاريخِه وأثاثِ بيته لو تستطيعون، سأترُك القنديلَ مُعلَّقًا هُنا حتّى نهايةِ العُمر وسوف أجعلُ أولادَنا يُحبّونَه، فتُصبحين الوحيدةَ الكارهةَ له، ومَن يدري، فقد يسقط على رأسك انتقامًا من كُرهِك له”.
تسألُ ببعضِ عَتابٍ وغُنج، فيضمُّها إلى صدره، في لحظةِ ذروةِ العشق، حيثُ يُصبحُ الحبُّ أعمقَ، والحنانُ أرقَّ، والصِدق ناصعًا كالثلج.
تعرفُ لينا متى تُبادر إلى حديثٍ، ومتى تُفسح له في المجال للتأمُّل والتركيز، فالدكتور نبيل، كان في شبابِه ينحو صوبَ الأدبِ والكتابة، قبلَ أن يدرسَ الطبَّ، وغالِبًا ما يُمضيان جزءًا يسيرًا من السهرة وهما يقرآن الكُتُبَ، ويتجاذبان بين حين وآخر أطرافَ الحديثِ عمّا يقرآن، أو عن الحياة، أو يتبادلان قُبلةً تشهدُ على أن القراءة لا تستطيع التفريقَ بينَهما ولو لدقائق.
عادت من المطبخ بكوبَين من عصير الجزر، ورائحةِ القهوة المُنعشة، وعددٍ من حبّات الشوكولا التي تتلذَّذ بها دونَ أنْ تؤثّر على رشاقةِ قدّها، كان نبيل غارقًا، أو هكذا يبدو، بكتابٍ إنكليزي يحمل عنوان:
The Seven Principles for Making Marriage Work”” ) المبادئ السبعة لتيسير ( أو إنجاح) الزواج).
اقترَبَت قليلاً من غلافِ الكتاب تقرأه مرَّة ثانيةً، ثم قالت:” لا تنسى يا حبيبي شُربَ العصير، والقهوة سوف تبرُد “، مدّ نبيل يدَه لأخذِ كوبِ العصير وهو يواصل القراءة، لكنّه صرخ ألمًا حين اصطدمت أصابعُه بركوة القهوة الساخنة. لم تكُن ساخنةً جدّا أو مؤذية جدًّا، ولم يتألم فعلاً، لكنّ المفاجأة ضاعفت الصدمة، فكان وهمُ الوجع أكبرَ من الوجع. ظنَّ أن القنديلَ يضحكُ، فجزره.
سألت بضحكتِها المعهودة في لحظاتِ إثارة العشق. استوى نبيل على الكنبةِ، نظرَ إلى القنديل العتيق المُجاور لركوة القهوة بعد إنزاله من السقف، وقال:” ها قد أنزلتُه من السقف، أعتقدُ أنَّكِ على حقّ، فهو ليس ملائمًا، وقد يسقط في أي لحظة على رأس أحدِنا”.
سارَعت إلى التعليق كالمُنتصر على حلبةِ مُصارعة، ولكن بمحبّة، وبصوتِها الدافئ:
هذه المبادئ السبعة كان الكاتب الشهير جون غوتمان قد طرحها بعد سنواتٍ من دراسةِ أحوال وأسباب ونتائج القلق في الحبّ والزواج، وهو أراد من خِلال ذلك، ليس وضعَ الإصبعِ على جروحِ العلاقاتِ فحسب، بل بسلمَتَها وإيجادَ أفضل الطُرُق لتحسينِ شروط العلاقات العاطفيّة من الحبّ والزواج وغيرِهما.
يُحدّد غوتمان بدايةً، أربعَ سلوكيات يُسمّيها “حصانة الزواج” والتي يمكن برأيه، أن تؤديَ إلى مشاكلَ وقلقٍ في العلاقات، وهي: النقد، الازدراء، الدفاع عن النفس، والانسحاب. وهو يجزم بأنَّ هذه السلوكيات تَتسبَّب في تآكل العلاقة وتزيدُ من مستويات القلق بين الشريكين.
يرفع نبيل عينيه عن الكتاب، ويُعلّق مُبتسِمًا:
يتحدّث غوتمان أيضًا عمّا يُطلق عليها اسمَ:” نسبةُ الإيجابيّة إلى السلبيّة”، فيرى أنَّ نجاح العلاقات الزوجية، يعتمدُ على نسبة التفاعلات الإيجابية إلى السلبيّة، بمعنى أنَّ العلاقات السعيدة والمستقرّة والناجحة، تتميَّزُ عادةً بنسبةِ تفاعل إيجابي تصل إلى 5 مقابل نسبة تفاعل سلبيّ تقتصر على 1، وكلّما قلّت النسبةُ الإيجابيّة، ازداد التوتّر وتضاعف القلقُ، وضعُفت العلاقة.
تضحك لينا، وتُريد مواصلةَ التعليق، لكن نبيل يُكمل كأنَّه لم يسمع شيئًا: كذلك، يُشير غوتمان في كتابه الذي أنصحُكِ فعلاً بقراءته، إلى أهميّةِ أسلوب البدء بالحوار والنقاشات والاستماع إلى الآخر، ومعرفةِ متى وكيف يجب أن نبدأ حوارًا مع مَن نُحب، لأنَّ اختيارَ اللحظةِ المُناسِبة قد يحلُّ أعقدَ المشاكل، ثم إنَّ الخطأ في اختيارها قد يزيدُها تعقيدًا. والنبرةَ الهادئة والإيجابيّة تُقلّل كثيرًا من تطوّر القلق والنزاع.
وهُنا يُضيف غوتمان نُقطة مُهمّة جدًّا، بتركيزِه على ما يصفُها ب ” الدورات السلبيّة”، وذلك حين يلجأ كلٌّ من الشريكَين أو الزوجَين أو الحبيبَين إلى الدفاع أو الهجوم بمُبرّرات واهية، تزيد القلقَ وتُعيق الحلولَ.
تُقهقه لينا، وتسألُه إن كانت تستطيع الجلوس إلى جانبه وهو يُكمل القراءة بدلاً من الجلوس على الكنبة المجاورة، يُرحّب بذلك، ويضيف: على كلّ حال غوتمان ليس وحده من تحدّث عن أهمية تفكيرِنا على عواطِفِنا، فمثلاً آرون بيك، مؤسس العلاج المعرفي CBT، يقول إنَّ افكارَنا غالِبًا ما تقود مشاعرَنَا، ولذلك علينا تغييرُ التفكير السلبيّ لنتحكّم بالقلق، وكذلك دانيال غولمان الذي تعمَّق بمسألة الذكاء العاطفي، يُشدّد على أنَّ فهمَ وتنظيمَ مشاعِرِنا يُساعدان في تقليل القلق وتحسين العلاقات.
وضعت لينا يدَها على ركوة القهوة لقياس حرارتِها، شرِبت ما بَقيَ من كوب العصير، قَبَّلت نبيل على وجنته، وقامت تُعيد تسخينَ القهوة.
فتح نبيل هاتفَه مرّة عاشرة، قلّب الرسائل، مسحَ العرقَ عن يده اليُمنى، كان خنصرُه قد احمرَّ قليلاً بسبب ركوة القهوة، تحسَّسه، ثم نظر إلى هاتِفه، واعادَه إلى مكانه.
كان نبيل في تلك الليلة ينتظر الرسالة التي لم تصل الاّ في ساعة متأخرةٍ من الليل، فقلبت كلَّ حياتِه، وقرّر السفر.
التتمّة قريبًا في كتابي ” تأمُّلات من شرفةِ الدهر”
سامي كليب: كتب عالِم النفس الشهير سيغموند فرويد منذ عقودٍ طويلة : " إن الإنسانَ…
Le système métrique et le pied du roi ! Nadine Sayegh-Paris Combien de mesures, de…
Et si le cœur n’était pas vraiment un cœur ! Nadine Sayegh-Paris Comme tout le monde…
ديانا غرز الدين سؤال غريب ، من يصنع من؟ هل الواقع يصنعنا ام نحن نصنعه؟…
روزيت الفار-عمّان أنطونيو غرامشي الذي تأثر به كثيرون ومنهم المفكّر إدوارد سعيد؟ كيف يمكننا إسقاط…
حيدر حيدورة-الجزائر في ظل ازمة حادة تعرفها العلاقات الجزائرية الفرنسية لم تشهدها منذ الاستقلال حتى…