أطباء بلا حدود: نبترُ بلا تخدير، ونُبلسِم بالخلّ
أطباء بلا حدود: نبترُ بلا تخدير، ونُبلسِم بالخلّ
روزيت الفار
يروي أطباء منظّمة “أطباء بلا حدود” “Médecins Sans Frontières” (MSF) مشاهداتِهم المؤلمة حتّى العظم، وعملَهم القاسي حتى اجتياز حدود التحمّل الإنسانيّ، في ما بقي من مبانٍ مُدمّرة، إسمُها مستشفيات غزّة، فهم يبترون الأقدام والأيادي بلا تخديرٍ وعلى الأرض لا الأسرَّة، ويُطهّرون الجروح لِمَن استطاع الوصول إلى المُستشفى، بالخلّ أو الماء والملح. تستحقّ هذه المنظّمة الطبيّة الإنسانيّة بعضَ اعترافٍ بجميل ما تفعل تحت قصف وجور وبطش أسوأ إحتلالٍ في أقسى ظروف.
اليكم أولاً بعضًا مما يقوله الأطباء
كريستوفر غارنييه، نيكولاس باباكريسوستومو: وهما منسّق مشروع، ومنسّق الطّوارئ في منظّمة أطبّاء بلا حدود في جنوب غزّة، يشاركان روايتهما عن فظاعة المشهد في مستشفى النّصر بخان يونس بعد ضرب محيطه بغارة إسرائيليّة. فمعظم من وصلوا إلى مستشفى كانوا بحالات حرجة جدّاً أو كانوا قد فقدوا الحياة. منهم أطفال محروقون بالكامل ومنهم من كان بواحدة أو دون أطراف. لا غاز للطّبخ ولا ماء للشّرب. يقول الطبيبان :”حاولنا في الأيّام الأخيرة معاودة تفعيل أنشطتنا لكنَّ الأوضاع الصّعبة ومحدوديّة الأدوات والعلاجات وخطورة التّنقّل وصعوبة الوصول جعلت ذلك مستحيلاً”. نكرّر مجدّداً أنّ لا مأمن في أيّ مكان ولا لأيِّ شخص في غزّة”. وإنَّ التّهجير القسري يجب أن يتوقّف، ذلك أنَّ البقاء على قيد الحياة مسألة حظ فقط”.
يقول الدّكتور غسّان أبو ستّة، وهو طبيب في منظّمة أطبّاء بلا حدود يعمل في غزّة “كنّا نجري عمليّة جراحيّة في المستشفى الأهلي؛ حدث انفجار قوي فسقط السّقف على غرفة العمليّات وكنت من بين النّاجين. هذه مجزرة”. لم تعد المستشفيات مبانٍ للاستشفاء ولتلقّي العلاج؛ بل ملاجئ -وللأسف غير آمنة- لآلاف العائلات المشرّدة والّتي تَكرَّر لجوؤها لأكثرَ من مرّة من مكان إلى آخر وضمن فترات قصيرة إمّا بسبب فقد بيوتها، أو بسبب الطّلب الإسرائيلي لإخلائها خلال مدّة لا تزيد عن السّاعتين بل أقل، دون أيّ ضمان لسلامة الرّحيل، حيث يتمّ قصف هؤلاء اللّاجئين حتّى أثناء عمليّة الرّحيل”.
نعت المنظّمة في الأسبوع الماضي 4 من أطبّائها وعدداً آخر من موظّفيها أثناء قيامهم بمهمّاتهم الإنسانيّة داخل المستشفيات وخارجها؛ فجميع الأماكن مستهدفة وكذلك الأمر بالنسبة لسيّارات الإسعاف أو أيّ وسيلة لنقل المصابين، بالرّغم من كفالة القانون الدّولي لسلامتهم وبعد تبليغ الجهات الإسرائيليّة عن مكان تواجد هذه الطّواقم. حيث ينصّ القانون على وجوب حماية المرضى والعاملين في القطاع الصّحّي والمرافق الصّحيّة وفي جميع الأوقات، غير أنّ ما يجري يتجاوز جميع الأنظمة والقوانين وينتهكها بشكل سافر.
أشار الطّبيب أبو ستّة إلى أنّ أفراد المنظّمة أصبحوا يمارسون عملهم ضمن شحٍّ وقصور كبيرين في الأسرّة والأدوية والمعدّات والمستلزمات الطّبيّة الأساسيّة لدرجة أنّهم أصبحوا يستخدمون الخلّ في عمليّة تطهير وتعقيم الجروح ويجرون العمليّات الجراحيّة -بما فيها البتر- على الأرض وفي أروقة المشافي دون استخدام أيٍّ من مواد التّخدير، وذكر بأنّ أصعب ما كان الأطبّاء يواجهونه هو تحديد الأولويّة في العلاج وبأيّ الأشخاص أوالحالات يبدأون. وفي كثير من الأحيان، كانت الأولويّة الّتي تُعطى لأحدهم تتمّ على حساب حياة آخرين من أكوام الجرحى والمصابين المكدّسة والّتي تنتظر العناية.
إنّ الانقطاع الكامل للاتّصالات منذ 27 أكتوبر يزيد من عزلة السّكّان المحاصرين أصلاً والّذين تحت القصف المستمر ويحدُّ من القدرة على تنسيق وتقديم المساعدة الطّبيّة؛ فالأشخاص تحت الأنقاض والنّساء الحوامل وكبار السّن ذوو القدرة المحدودة لا يمكنهم طلب المساعدة. يتفاقم الوضع سوءاً بانقطاع التّيّار الكهربائي الّذي يتمّ بواسطته تشغيل ما تبقّى من الأدوات الطّبيّة وأجهزة العناية المكثّفة.
إنّ منع دخول الوقود وهو المادّة الّلازمة لتشغيل الكثير من أجهزة المستشفيات ومحطّات تحليّة المياه للشّرب يعزّز انتشار الأوبئة والأمراض ويساهم في زيادة أعداد الوفيّات.
النّاس متروكون دون طعام أو ماء أو أدوية كافية لسدّ الحدّ الأدنى للعيش. فقبل 7 أكتوبر كان القطاع يستقبل حوالي 500 شاحنة مساعدات، أصبح هذا الرّقم في أقصاه 84 شاحنة بعده.
يقول الأطباء المذكورون : “نحن عاجزون. ومعاناتنا اليوم أنّنا بعيدون عن عائلاتنا وأُسَرنِا وإنْ أمكننا الحديث؛ فبدل الحديث بكاء، إنّها ظروف مأساويّة. نرى أحبّاءنا يموتون ونقوم كلَّ يوم بتقديم التّعازي لبعضنا البعض بموت أحبّاء لهم ولنا “.
هذا بعض من فيضِ ما جرى ولا يزال يجري على أرض غزّة ضمن تجاهل وتغافل تامّين من قبل جميع المنظّمات الدّوليّة والمؤسّسات الّتي تعنى بحقوق الإنسان. فإلى متى يا تُرى؟
مَن هي منظمة أطباء بلا حدود، وما هي أهدافُها؟
تأسّست هذه المنظّمة الإغاثيّة الطّبيّة الدّوليّة وغير الحكوميّة في فرنسا عام 1971، لكنَّ مقرَّها الرّئيسي الآن في سويسرا/جنيف. تكوّنت ببدايتها من مجموعة شملت 13 طبيباً وصحفيّاً و300 متطوّعاً. تطوّرت بمرور الوقت ومع تنامي الحاجات إلى حركة دوليّة تضمّ أكثر من 63,000 من أشخاص محلّيين ودوليّين من أطبّاء وممرّضين وخبراء خدمات لوجستيّة ومن اختصاصات مختلفة تسهم في مساندة أهدافها الأساسيّة.
إستندت المنظّمة على مبدأ أنّ لجميع النّاس الحقَّ في الحصول على رعاية صحيّة عالية الجودة بغض النّظر عن الجنس والعرق والانتماء السّياسي أو الدّيني، وهي تُقدّم أكثر من 10 ملايين استشارة طبيّة في أكثر من 70 دولة كلّ عام.
حصلت على عدّة جوائز عالميّة أهمّها : جائزة نوبل للسّلام 1999 تقديراً لعملها الإنسانيّ.
مبادئها :
التّطوّع. الحياديّة. الاستقلاليّة. الشّفافيّة والمساءلة. الشّهادة وعدم الصّمت على ما يجري أمام أعينها عندما يتمّ تجاهله -كما هو في غزّة الآن- ونقله للمسؤولين والدّعوة لإيقافه. الإلتزام بأخلاقيّات مهنة الطّب ومراعاة الحق في الحصول على المساعدة الإنسانيّة وطلب الحق في الحريّة المطلقة دون عوائق في ممارستها لمهامّها؛ حيث تكون في مناطق الحروب والأماكن المنكوبة أثناء الكوارث الطّبيعيّة من زلازل وفياضانات وأوبئة وأمراض.
يشمل عملها، إضافة للخدمات الطّبيّة، توفير المأوى وخدمات المياه والصّرف الصّحّي والغذاء وأموراً كثيرة تتعلّق بالأوضاع الإنسانيّة الأخرى، وتدعو أطراف النّزاع إلى ضمان سلامة المدنيّين والمرافق الطّبيّة والعاملين فيها لكي تبقى المستشفيات ملاذاً للأشخاص الّذين بحاجة لرعاية. كما وتطلب منهم (أطراف النّزاع) ومقابل استقلاليّتها وحياديّتها، ضمان الوصول الآمن والسّريع لموظّفيها ودون أيّة عوائق، إلى المدنيّين الّذين بحاجة للمساعدة.
لمحة سريعة عن قطاع غزّة:
هي المنطقة الجنوبيّة من السّهل السّاحلي الفلسطيني على البحر الأبيض المتوسّط. غزّة هي أكبر مدن القطاع، لذلك هو يحمل اسمها. ويشكّل 1.33% من مساحة فلسطين. يبلغ طول القطاع 41 كم، ومساحته 365 كم مربّع. له حدود مع فلسطين بطول 51 كم ومع مصر بطول 11 كم، ويقارب عدد سكّانه 2.3 مليون نسمة ممّا يجعله من أكثر مناطق العالم كثافة بالسّكان. تشكّل نسبة الأطفال من عمر 0-14 عام أكثر من 40% من سكّانه والكبار فوق ال 65 عام نسبة 3% فقط حسب تقرير الجهاز المركزي الفلسطيني 2023.
يسيطر الجيش الإسرائيلي على حدود القطاع ومجاله الجوّي ومنافذه البحريّة، ممّا يجعله فعليّاً بحكُم المُحتلّ.
فصلت إسرائيل القطاع عن الضّفّة الغربيّة بعد احتلالها للأراضي الواقعة بينهما. أصبح القطاع تحت سلطة المقاومة الفلسطينيّة “حماس” بعد الصّراع مع السّلطة في الضّفّة الغربيّة والانشقاق عنها.
خضعت غزّة بعدها لحصار إسرائيلي جائر جعلها تفتقر لأساسيّات الحياة من أغذية ومياه نظيفة وكهرباء وأدوية وتقنين ومنع دخول المحروقات ومنع الصّيد في عمق البحر بالرّغم من دعوة جميع المنظّمات العالميّة الإنسانيّة إسرائيل لرفع حصارها أو حتّى التّخفيف منه.