الآثار المُدمّرة للاتجار بالبشر
الآثار المُدمّرة للاتجار بالبشر
سجى عبد الرضا*
في التقرير العالمي السابع للاتجار بالبشر، كشفت الأمم المتحدة عن 450,000 ضحيّة في الفترة الواقعة بين عامي 2003 و2021، وهو رقم مرعب، وعن 300,000 جاني تمّ التعرف إليهم. غير أنّ واقع هذه الآفة لا يزال مٌقنّعًا ومحميًّا.
وفي مناسبة اليوم العالمي لمكافحة “الاتجار بالأشخاص” نشرت الأمم المتحدة تقريرًا تقول فيه إنّه : على الصعيد العالمي، يبدو أن الاستجابات الوطنية، ولا سيما في الدول النامية، آخذة في التدهور. فقد انخفضت معدلات الكشف عن الحالات بنسبة 11٪ في عام 2020، وانخفضت الإدانات بنسبة 27% الأمر الذي يدل على وجود تباطؤ عالمي في مجال المحاسبة على جريمة الاتجار بالبشر. كما وغيرت جائحة جائحة كوفيد 19 أيضًا خصائص الاتجار، وأصبحت أكثر سرية وربما زاد من المخاطر التي يتعرض لها الضحايا من خلال تقليل احتمالية لفت انتباه السلطات إلى الجريمة. ففي الواقع بادر حوالي 41% من الضحايا الذين تمكنوا من الفرار من محنتهم بالإتصال بالسلطات- وهي علامة واضحة أخرى على أن الاستجابات لمكافحة الاتجار غير كافي
الحقيقة النزيهة، هي أن معظم الضحايا يعانون بصمت مقيدين بالخوف والقمع ، غير قادرين على الإفصاح و الإبلاغ عن معذبيهم. نظرات الدونية التي يلقيها المجتمع، عدم الإعتقاد بسعي القوى الأمنية، و التهديد بالانتقام من المبلغين، يجبرهم على الإنعزال في وضع هامشي، مما لا يعطي انطباعا شفافا، مفهوما عن خطورة هذه الأزمة العالمية.
في عالم الإتجار بالبشر المسعور، يستمر المتاجرون بإظهار ليونة، وتطويعا للأحوال العامة من خلال المثابرة على إيجاد طرق جديدة لاستغلال وتسليع حياة البشر.
يوم بعد يوم يظهر هؤلاء الجناة قدرة مخيفة على التكيّف، من خلال التلاعب بالتكنولوجيات الجديدة والشبكات العالمية لارتكاب أفعالهم الملتوية. مساقون بالجشع و الإستخفاف بحياة البشر، ينتج هؤلاء خطط يقبع الشر في داخلها وملامحها، للتعامل مع نظرائهم على أنهم مجرّد سلع للبيع على أساليب أسواق النخاسة المدنسة. هذا التأقلم دائم التغيّر يثبت تحديا مضنيّا على القوى الأمنيّة والمنظمات الإنسانية للمعافرة، حيث يظهر حاجة تلح إلحاح الظلام على القيام، بمبادرات يقظة وتعاون لا تشوبها النقاشات الفارغة، لوقف أعمالهم الشريرة. في المواجهات قريبة أو بعيدة المدى، لا بد أن تستشري جهودنا على تفكيك أساليبهم إلى حد الهشاشة للمحافظة على قيمة وثقافة الحياة البشرية.
السبر في أعماق المقابلات:
تهدف مقابلاتنا ليس إلى تحليل كل من الحالات بل إلى المشاركة في حوارات عميقة مع المتعرّضين للإتجار بالبشر أنفسهم حيث نسعى في دراستنا إلى التماسهم كبشر بغض النظر عن ظروفهم وتجاربهم. ولا خير في رمي الترهات حول كونهم محاربين وأبطال، ليتمادى البعض إلى حد تمنين هؤلاء الأشخاص، وتوقع امتنانهم لخوض ما خاضوه، بحجة العودة أقوى. أجوبتهم الواضحة التي لا تحتمل تأويلات، أظهرت ضجرا عميقا حيث أوضحت أن لهؤلاء ما بقي داعيا للخسارة أو لإثبات الوجود. ما حكي لم يحتج حتى الى للتطور الثوري في علم النفس لربط المشكلة بعقد دفينة، الوضع واضح، لا حاجة لتفنيده، ليرفضه بشراسة العقل البشري. طرحنا عليهم 15 سؤالا و أجوبتهم – 45 بالمجمل- أظهرت نمطا واضحا.
الوجود المسبّب للفزع:
الإدراك ،المثير للهلع المنطقي، أن إنسانية الفرد يمكن أن تحتل فيه بلمح البصر يعطي شعورا دائما بالجهوزية للمحاربة من أجل البقاء. الضحايا يعانون يوميا من عدم قدرتهم على إثبات حقهم في العيش. والوضع صراحة يطرح تناقضا، المتاجرون بالبشر يظهرون عروضهم كجسر لحياة أفضل ولائقة بأن تسمى حياة، شرح أحد الذين تجرى معهم المقابلة: “سيسألونني لما لم أجد طريقة أخرى”، وهنا الحبكة، تظن أنك تشتري حياة، لتشترى وتباع في أوج الحياة.
صفقة في وضح النهار:
الإتجار بالبشر، بعيدا عن الخطيئة، هو مجال تجاري ذو ربح عالي. كما يتاجر البعض بالسيارات يتاجر آخرون بالبشر. التحقيقات في معظم هذه الجرائم تركز على مساءلة الضحايا عوضا عن العمل بجد لتفكيك الشبكات التي تقوم بالعمليات.
وهنا تظهر إحدى مشاكلنا الكارثية، توزيع الناس بطابع تطغى عليه العشوائية أحيانا، خارج وداخل السجون.
العلاقة بين السلطة و الإتجار:
تقوم علاقة جوهرية بين السلطة و الإتجار بالبشر. هل تسهل السلطة عمليات الإتجار بالبشر، أم أن النجاح في هذه التجارة يدك يأجج السلطة؟ العلاقة بينهما تكافلية. يجذب المتاجرون ضحاياهم من خلال عرض ما يملكه الضحايا بنيويا -الحرية- فقط ليجردوهم منها، تاركينهم تواقين لما كانت الحياة عليه قبل إنقاذهم المدعو، “أندم، عني وعن كل من يجدر أن يندم.”
النظر أبعد من الدوافع المادية:
يسلّم المتاجر بهم، أن الهدف الوحيد للمتاجرين هو المال، الكثير من المال، كاف ليبني برجا لا تسمع منه عويل أهل الأرض وتذمرهم المزعج من أجل العيش كإنسان.
“أنا لا أندم على شيء” عبارة ليست للمتاجرين بالبشر:
العبارة الشهيرة “Je ne regrette rien ” لا يجب أن تنطبق على المتاجرين بالبشر ، هؤلاء الذين يعتمد سبيل عيشهم على استغلال الآخرين يملكون وجهة نظر يمكن أن تخدع العقل البريء، التكفير المقبول إجتماعيا، بذلة فارهة، إبتسامة تساعد في تزييفها عمليات التبييض المكلفة، وتبرع كريم، عناق مع طفل مريض، ولم لا، قبلة على الجبين، إقتحام صور الجمعيات الحقوقية، بدعوة من رئيسها، للمتبرع الكريم، الذي لا يبخل ولايسأل.
العيش ما بعد الكارثة:
حتى بعد الإفلات من المتاجرين يجد الناجون أنفسهم في موقف موجع، إيجاد الحياة بين الركام والحطام بمعدات ضئيلة؛ قطع من أنفسهم التي عرفوها سابقا مشتتة أمام أعينهم و يمنعون من التقاطها وتجميعها. يعتبرهم المجتمع في أغلب الأحيان على أنهم مشاركون في الجريمة عوضًا عن أنهم ضحايا مما يعيق رحلة الشفاء. التعاطي مع الضحايا يستوجب حكمة و ضبطا عميقا للنفس قبل إطلاق الأحكام. إننا نثني على هؤلاء الذين يبدون رغبة في العيش بعد التحديق في أعين الموت، لأن رحلة العلاج متعددة الأوجه، متقلبة المزاج.
إدراك الإنسانية في الناجين من المتاجرة:
الإتجار بالبشر يستمر. لا يهم إن إعتبرناهم ناجين أم ضحايا؛ من المهم أن نتذكر أنهم بشر ثم يمكننا أن نتناقش إلى حد الشجار في التسميات الثانوية، فخلف كواليس تجاربهم المعقدة يتشاركون أبسط المشاعر البشرية.أصبحت عقولهم شبيهة بساحات القتال إلا أنهم يحتفظون بانسانيتهم، لديهم ألوان مفضلة، و أكلات مفضلة، و يتوقون الى ليالي هادئة. الناجون من الإتجار بالبشر لا يجب عليهم إثبات إنسانيتهم للعالم، إنهم يستحقون حياة خالية من الإستغلال، والآن نفتح المجال لإكمال الكلام.
بإلقاء الضوء على قصص الناجين المروّعة، نأمل أن نحمل قلوبنا فهم أكبر و تعاطف أعظم و الأهم من ذلك مبادرات أوضح لوقف هذه الأعمال. إنه من مسؤوليتنا جميعا كبشر أن نحارب هذه الأنظمة التي تدير بإستمرار هذه الأفعال المقيتة، حماية الأشخاص المعرضين للخطر، و إيجاد عالم حيث يعيش البشر آمنين من فكرة الاتجار بالبشر. فقط عبر جهودنا المشتركة يمكننا أن نفكك الظلال و نعتنق الحرية، دون سلبها من الآخر.
الكاتبة: سجى عبد الرضا، بكالوريوس في علم النفس من الجامعة اللبنانية، مستجيبة أولى في الصليب الأحمر اللبناني