الجزائر قلب فلسطين النابض فماذا عن لبنان؟
سامي كليب:
أينما حللتَ في الجزائر ستسمع على الأقل مرّة أو أكثر إسم فلسطين. لا فرق بين مسؤول كبير، أو قائد عسكري، أو وزير، أو إعلامي، أو طبيب، أو مثقّف، أو مواطن عادي، أو نادل المقهى. لا يخلو حديث من ذكرِها، ولا يُفتتح مهرجانٌ أو ندوة دون تصدّرها الكلام بعد البسملة والحمدلة، وحين تسأل الرئيس الجزائريّ عبد المجيد تبّون عن فلسطين، يسارع إلى القول:” أنّها قضيّة جزائريّة مُقدّسة ونحن لن نشارك في الهرولة نحو التطبيع”.
فلسطين قضيّة جزائرية مقدّسة
أمام مرفأ العاصمة البيضاء الجميلة، مقهىّ شعبيّ يتوزّع الرجال (فقط) حول طاولاته، دعاني الصديق والزميل الوفيّ سُفيان مع زميلنا أحمد العائد لتوّه من لندن، لتناول القهوة وشيءٍ من الحلوى، ما أن جلسنا، حتّى تقدّم صوبَنا رجلان جزائريان، أحدُهما تقاعد قبل سنوات من وظيفةٍ عامّة والثاني يعمل بالتجارة، رحبّا بنا كما لو أنّنا أصدقاءُ عُمرٍ، ودار الحديث بيننا عمّا يجري في غزّة، فصبّت اللعنات على المُحتل، وأعرب الرجلان رغم عمريهما، عن الاستعداد للقتال ضدّ الاحتلال لو تسنّى لهما ذلك. سألناهُما عن التطبيع كحلٍ شامل في المنطقة بدلاً من الحروب: فانتفضا كمن لسعته أفعى، وقال المُتقاعد بينهما من على قامته النحيلة، وجسده الذي نقشت السنين كل ثقلها فوقه:” أرجوك يا أخي لا تُكرّر هذه الكلمة، هّنا، فهي منبوذة عندنا وقد لا يحتملها أحد”.
تذكّر سُفيان حادثةً مماثلةً وقعت له قبل فترة، قال :” كنتُ أُجري تحقيقًا تلفزيونيًّا في الشارع حول فلسطين، وسألتُ مواطنًا عن ردّه على من يقول إنّ الفصائل ترتكب أيضًا جرائم بحق المُحتل، فخطف الميكروفون من يدي وأراد تحطيمه وتحطيم الكاميرا، لولا أنّي سارعتُ لتهدئة روعه وغضبه”.
هَمَمْنا نحن الثلاثة، سفيان وأحمد وأنا بمغادرة المقهى لالتقاط بعض الصور قرب المرفأ، كانت زُرقةُ السماء وهدوء البحر، يوحيان بطمأنينة الروح وبديع الخالق، فقال لنا صاحب المكان:” لا داعي لدفع الفاتورة، لأنّ أحد الرجُلين دفعها وغادر”.
هذا مُختصرُ الجزائر ببساطة، محبّةٌ صادقة، وكرمٌ بلا مُقابل، وفلسطين تتموضع في عمق القلوب. لعلّها القضية الوحيدة بعد التحرير التي ما اختلف الجزائريون يومًا بشأنها.
كانت الجزائر تأمل بعد القمّة العربيّة التي عُقدت على أرضها في العام الماضي، وحيث نجحت في جمع كلِّ الفصائل الفلسطينيّة، أن تُبلسمَ الجرح الغائر بين حماس والسُلطة، وأن تُعيد الوحدة إلى منظمة التحرير التي لها على أرض الجزائر ذكرياتٌ وأهمُّ المؤتمرات، وكان الرئيس تبّون نفسه قد قال في حينه، وكرّر لاحقًا، أنّ الخطابات لا تنفع، وأنّ على الفلسطينيّين التوحّد كبداية للخلاص، ودعا العرب لوضع استراتيجية فعّالة حقيقيّة وسط التنافس العالمي الحالي، والإفادة منه لإنقاذ فلسطين، وقد قدّمت الجزائر فعلاً منذ العام الماضي للفلسطينيين نحو 150 مليون دولار. لكن خناجر بعض الأشقاء قبل الأعداء كانت أقسى من خبث العدو.
استعادة دور خارجيّ طليعيّ
تطمح الجزائر القائمة من عشريّة سوداء (فترة الحرب ضد التكفير والإرهاب)، ومن الوهن الذي أصاب الدولة خصوصًا في الولاية الأخيرة للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة قبل أن تندلع ضدّه ثورة شعبيّة، إلى التأسيس لمشروع عربيّ جامع، وتستمر في تفعيل دبلوماسيّتها في المجالين الإفريقي والعربي وعلى المستوى الدوليّ، وهي نجحت إلى حد كبير في العودة إلى الساحات الثلاث بأسرع مما توقّعت.
غير أن هذا السعيّ يضع الجزائر في عين العاصفة، فدولة الثورة الكُبرى التي دفعت على مدى 70 عامًا من النضال ضدّ المستعمر الذي ربض على أرضها وخيراتها لأكثر من 130 عامًا، نحو 5 ملايين و600 ألف شهيد، تُثير قلقَ دولٍ عديدة. فهي نجحت في السنوات الماضية في الوقوف إلى جانب دولٍ افريقيّة طردت فرنسا، وتستثمر أكثر من مليار دولار في مصارف افريقيّة، وترفع لواء رفض التطبيع والنضال ضد مَن تصفه ب ” آخر أنظمة التمييز العنصريّ في العالم”، وتنوّع بعلاقاتِها الدوليّة في مجالات الاستثمار، فتتقلّص الاستثمارات الفرنسيّة لصالح دولٍ أخرى.
ما أن تصلَ إلى مطار هواري بومدين الجديد، حتّى تفاجئُك فخامتُه وأناقتُه، فيحملُ بصماتِ المشاريع الصينيّة العملاقة في الجزائر. تمامًا كمعالم ومنشآتٍ كثيرة وبينها المسجد الكبير في العاصمة، ناهيك عن سكك الحديد والقطاعات النفطية والإنتاجية الأخرى. ففي العالم 2022 ارتفع التبادل التجاري بين الصين والجزائر بنسبة 37%، فيما كانت فرنسا ولفترة طويلة تحتل المرتبة الأولى بأكثر من 11 مليار دولار سنويًّا. يتغيّر شكلُ المطار وحجمه، لكن شروط الأمن لا تتغير، فالصفوف تبقى طويلة، والتدقيق في كلّ جواز يستمر على الأقل لما بين 10 دقائق وربع ساعة. تُدركُ الجزائر أنّها مستهدفة حتّى ولو أنّها رفعت كثيرًا من مستوياتها الأمنية بحيث صارت السُلُطات تسمعُ دبيبَ النمل لو شاءت.
الاستثمارات الخارجيّة واعدة في الجزائر، فهذه تُركيّا مثلا، وصل تبادُلُها التجاريّ حاليًّا معها الى أكثر من 5 مليارات دولار، وسوف يصل قريبًا إلى أكثر من 10 مليارات.
إن الدورَ الجديد والطموح الذي تُريد الجزائر أن تلعبه من افريقيا التي اقامت معها منطقة للتبادل الحرّ قبل عامين، الى المشرق العربي وعلى مستوى العالم، يُحرّك ضدّها لوبيات مهمّة تُريد إعاقة تحرّكها وحصرها داخل حدودِها، لكن يبدو أن قرار استعادة دورٍ جزائري واسع وفعّال قد اتُخذ ولا رجعةَ عنه. ليس غريبًا مثلاً أن تستمع في الإذاعة الجزائرية التي يُدير منشآتها الكبيرة الزميل الصديق والنابض بالحيوية والمشاريع محمد بغّالي ، قسمًا صار مُخصّصًا لإفريقيا، بينما تبث الإذاعة طيلة النهار أغاني وأناشيد ومقابلات حول فلسطين.
زرتُ الجزائر هذه المرّة، بدعوة من وزارة الاتّصال التي يُديرها حاليًّا الإعلامي السابق والأستاذ الجامعي والمثقّف صاحب المؤلفات العديدة د.محمد لعقاب، كنّا مجموعة من إعلاميين وأكاديميّين من مختلف الدول العربية، وكالعادة في كلّ زيارة، تتقاطر وسائل الاعلام الجزائرية بمحبّتها النادرة لكل عربيّ يزورها، إلى دعوة للمشاركة في نقاشات على الهواء. تشعرُ مع كلّ سؤالٍ لزميل بأن فلسطين مزروعة في قلبه، وكأنما قضيتنا الأولى توضع في حليب الأطفال منذ ولادتهم، أو في حبّات التمر اللذيذة ( دغلة النور) منذ طفولتهم.
تبّون بين ناسه وغزّة في القلب
حضر الرئيس تبّون الاحتفال السنوي لتوزيع الشهادات على المُكرّمين من الإعلاميين الجزائريين، وهذا تقليدٌ سنوي يُشجّع الشباب ويتذكّر كبار السن من أبناء المهنة وهم على قيد الحياة ( لا بعد أن يرحلوا كما يحصل في الكثير من دولنا)، بقي تبّون لأكثر من ساعتين مع الناس وكانت غزّة حاضرةً في الخطاب والأحاديث، صافح مئات الأشخاص، ووقف يستمع إليهم ويناقشهم ويسألهم عن أحوالِهم. هذه من المشاهد النادرة في وطنننا العربي، حيث المسؤول لا يخاف من شعبه، على الأرجح لأنه ينطق باسم قضاياه المُحقّة من فلسطين حتّى تأمين السكن وحياة أفضل.
الزيارة هذه الأيام إلى الجزائر، تتزامن مع مواسم التمور، وهي ثمرة تُنعشُ القلب وتُغازل الحواس، لكنَّ الجزائر البلد الشاسع2،382 مليون كلم2 ، لم تستثمر بعد كلَّ ما وهبها الخالق من أراضٍ خصبة. يبدو أنَّ الجزائريّين لا يُحبّون العمل في الزراعة رغم أن كيلو التفّاح مثلاً قد يتخطى 4 دولارات. وقد أخبرني أصدقاءٌ أن الكثير من اللاجئين السوريّين بدأوا يعملون في هذا القطاع، فهنا في الجزائر، يشعرُ العربيّ أنه في بيته وبين أهله، وتُفتح له الأبواب ليحافظ على الكرامة العزيزة على كل جزائريّ ( أو النيف كما تُسمّى هُنا).
ماذا عن لُبنان؟
سنحت لي الفُرصة في حفل تكريم الإعلام، بأن أجالسَ حول مأدبة الغداء، وزيرَ الطاقة والمناجم دكتور محمد عرقاب. رجلٌ قادم من خبرة أكاديمية ووظيفية عريقة، صمد في وزارته في حكومات عديدة، أنيق المظهر والكلام يتدفّق حيويّة وحماسة في حديثه عن المشاريع الكُبرى من العاصم الجزائر حتّى أقاصي افريقيا. سألته عن لُبنان وقضية ” النفط غير المطابق للمواصفات” الذي اتُهمت الجزائر من قبل أطرافٍ لُبنانيّة بتوريده إلى لُبنان.
هذه قضية تُثيرُ كلّ مسؤولي جزائري. لأنَّ الجزائر ظُلمت بها. وقد شرح الوزير بكثير من التفاصيل كلَّ خلفياتها، فالنفط لم يأتِ أصلاً من الدولة ولا من شركة سوناطراك الوطنيّة، وإنما من شركة خاصة وسيطة، وإنَّ تبديل النفط حصل في البحر من قبل مافيات، وإنَّ الجزائر عرضت على لبنان تعويضَ هذا النفط بأفضلَ منه حتّى ولو لم تكن مسؤولة عمّا حصل. لكن لُبنان ذهب إلى رفع القضية أمام القضاء. فتسرّع وكاد يؤدي الى ما يشبه القطيعة.
أساءت هذه القضية للجزائر التي طالما وقفت الى جانب لبنان وساعدته دون مُقابل. أغضبت الرئيس تبّون الذي طلب من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وضع حدٍ لها أثناء استقباله له. سمِع السفير اللُبناني في الجزائر الدكتور محمد حسن إبنُ الشمال اللُبناني والقادم من عالم الاعمال بين أوكرانيا وتركيّا إلى السفارة، كلامًا أقسى من كبار المسؤولين. ففي الأمر قضية كرامة وطنية وليس صفقة تجاريّة مع لبنان الذي لا يُمثّل الاّ الفُتات في التجارة النفطية الجزائريّة. (الجزائر قدّمت مساعدات للُبنان بقيمة تفوق عشرات المرّات حجم التبادل).
رغم جُرح هذه القضيّة، فإن الرئيس تبّون أعطى تعليماتٍ للسفير النشيط والحيوي في لُبنان والقادم أيضًا من عالم الاقتصاد رشيد بلباقي، بفصل القضية عن الدعم للُبنان. وهذا ما فهمتُه أيضًا من وزير الاقتصاد ،فرغم أنَّ القضاء اللُبناني لم يبُت بعد بالقضية، الاّ أن الجزائر أدرجت لُبنان في ميزانيّتها للعام 2024 وهي ستعيد تشغيل خط الطيران بين البلدين ابتداءً من مطلع العام. وقد أكد ليّ وزير الطاقة أنّه على إتصال شبه يومي بنظيره اللُبناني وليد فيّاض وأنّ ثمّة وِدًّا كبيرًا صار بينهما.
رُبما صار من المُعيب استمرار هذه القضية، فالجزائر التي وقفت الى جانب لُبنان وفلسطين في كل كبواتِهما، لا تُقابَل بمثل هذا الموقف من قبل مسؤولين لُبنانيّين يتبادلون رميَ المسؤولية في هذا الشأن على بعضهم البعض. كان يكفي أن يقولَ مسؤولٌ رفيع إنَّ لا علاقة للجزائر ولا لسوناطرك بالأمر وإنَّ التحقيق جارِ لحل القضيّة، مع اعتذار من دولة لم يعرف لُبنان منها سوى كلَّ خيرٍ لتُحلَّ القضيّة. ولكن….للبنان خزعبلاتٍ لا يعرفها غير الله.
في جلسة الغداء نفسها جاورتُ قائد الدرك الوطني اللواء يحيي علي ولحاج، رجلٌ أنيق المظهر والكلام أيضًا، يُشبه كبار القادة الغربيّين بمظهره ولون شعره وعينيه، ترتفعُ قامته لنحو مترين، رياضيٌ من طراز رفيع رغم قوله إنّه تقدّم بالسن، سالته عن لُبنان وعن التعاون الأمني معه، فعجِبتُ أن لا تعاونَ جدّي بين البلدين على هذا المستوى، رغم تشاركهما في الكثير من ويلات الجريمة المنظّمة والمخدّرات والإرهاب والتهريب وغيره. عجيبٌ فعلاً أن يتعاون لُبنان مع أقاصى دول الأرض، ويبتعد عن الجزائر التي يقول مسؤولوها إنّهم على استعداد تام لتقديم مساعدات للجيش والدرك وفي مجالات عديدة بينها مواد البناء دون أي مقابل. ولا ننسى أن الجزائر تتقدّم سريعًا في مكافحة الفساد الذي يُريده لُبنان أيضًا، وقد زجّت في السجن حتّى الآن 3 رؤوساء حكومات، ووزراء، وقادة عسكريّين كبارًا ورجالَ اعمالٍ عديدين.
ختامُها فلسطين
كان ختامَ الزيارة لقاءٌ صحافيٌّ في صحيفة الفجر، التي تُديرها الزميلة النشيطة والمثقفة والأصيلة حدّة حزام، وكانت القضية هُنا أيضا، فلسطين، فتم عرضُ فيلم كانت الزميلة نسيمة عبد الرحمَن (التي ندعوها نحن اللُبنانيين، كنّتَنا، لكونها متزوجة من الزميل العريق حيدر حيدورة المقيم في الجزائر منذ ثلاثين عامًا)، هو فيلمٌ كانت قد صوّرته في غزّة، والتقت آنذاك الرئيس الراحل ياسر عرفات وكبار المسؤولين بعد اتفاق أوسلو، لكنّه ما زال صالِحًا حتّى اليوم في تصويره القهر الذي يمارسُه الاحتلال والأمل بالتحرير الذي يشعُّ من عيون الأطفال.
كان في الندوة جمعٌ من الاعلاميّين، وكانت فلسطين وغزّة والضفةّ حاضراتٍ هُناك، تمامًا كما في كلّ مكان في الجزائر، حتّى ليكاد الزائرُ مثلي، يشعر بأنه يتنقّل بين غزّة والضفة والقدس. فكيف لا تستحقّ البلاد لقب ” قلبَ فلسطين النابض”؟
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…