مقال اليوم

 طوفان الأقصى…جولة النقطة الحاسمة قبل الضربة القاضية

 طوفان الأقصى…جولة النقطة الحاسمة قبل الضربة القاضية

أيمن مرابط – الرباط

للمرة الأولى بعد سنوات طويلة، جلس العالم والعالم العربي خاصة بأكمله أمام الشاشات لمتابعة خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي ألقاه يوم الجمعة  الماضي وسط حفل جماهيري بلبنان وبعض الدول على شرف “شهداء طريق القدس” كما أسمته قيادة الحزب الذين ارتقوا في المعارك الضارية بجنوب لبنان منذ الثامن من أكتوبر حتى اليوم.

خطاب دام ما يقارب ساعة ونصف من الزمن، تعددت محاوره بين الواقع المحلي اللبناني والإقليمي والدولي وبين السياسي والديني العقدي والعسكري كذلك، ناهيك عن الوزن والدلالات الجيوسياسية والاستراتيجية الذي يحمله ككل مرة، كما أن انتظارات المستمعين له من مختلف دول العالم والمواقع والمشارب اختلفت بحدة بين من انتظر إعلان حرب مفتوحة ثأرا لقطاع غزة، وبين من توقع مفاجأة خاطفة يُعلن عنها وآخرين لم ينتظروا أي شيء من هذا الأساس.

يُدرك السيد حسن نصر الله جيدا أن الملايين حول العالم ينتظرون خطابه، ومثلما ينتظره شخص جالس في مقهى شعبية بأحد الأحياء الفقيرة في بلد ما يوجد آخرون جالسون في مكاتب رئاسية فخمة يشرفون على عمليات عسكرية أو صفقات دبلوماسية هم أيضا آذانهم صاغية لخطابه إضافة للخبراء السياسيين والمحللين والمفكرين والإعلاميين وغيرهم، وبالتالي لا بد أن تستوعب كلمته كل الفئات وأن يخصص كل فقرة منها على حدة لفئة محددة فقط.

عقيدة الصمود والثبات لدى البيئة الحاضنة.

الفكرة المركزية للخطاب كانت هي الشهداء سواء شهداء حزب الله أو فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وفي لبنان أيضا، وعليها بدأ الكلمة بالترحم عليهم وتوجيه التحية لهم ولعائلاتهم وذويهم وللجرحى، كما أن الحضور الكثيف للعقيدة الدينية هو أمر طبيعي في أدبيات جل فصائل المقاومة التي تعي جيدا أن عدوها هو أيضا يُحارب بعقيدة دينية أكثر تطرفا وتعصبا.

ذكّر نصر الله أن القتال ضد “إسرائيل” هو واجب شرعي في الدين الإسلامي لا تختلف عليه كل المذاهب سواء السنية أو الشيعية، وبعث رسائل طمأنة ومواساة للمدنيين ضحايا العدوان في غزة والضفة وشدد على ضرورة الصمود والصبر، وهو بذلك يُذكر بما حدث للشعب اللبناني حين كان يرزح تحت الاحتلال أو في حرب 2006، ما يفيد أن شعار “وحدة الساحات” الذي رُفع منذ بداية “الطوفان” وقبله، هو في الأصل وحدة التاريخ والمصير المشترك بين شعوب المنطقة.

عادة، لا تنتصر حركات المقاومة في كل العالم وكل الحركات التي مرت عبر التاريخ إلا بشيء واحد فقط، هو البيئة الحاضنة خاصة الشعبية التي تضحي بكل سخاء بأرواحها وممتلكاتها ومصيرها في الحياة العادية لأجل التحرر من قيود الاحتلال أو الحصار، وبالتالي لا تراهن كل فصائل المقاومة في الشرق الأوسط إلا عليها ولا شيء آخر غيرها، فإذا تهدمت وتحطمت تكون كل مجهوداتها هباء منثورا أمام عدو يحرص عمدا على تحطيمها في كل جولة من جولات القتال ويعمل جاهدا على عزلها، وإذا صمدت وبقيت موحدة سقطت كل المخططات وأعلنت انتصارا من تحت أنقاض المنازل المهدمة لا يتحمل العدو رؤيته.

الأمن الداخلي وقواعد الاشتباك

في كل حروب غزة السابقة كانت دائرة الصراع ثنائية ولا أحد يتحدث عن شيء مثل “ضبط حدود الصراع” أو “العمل على منع توسيع رقعة الصراع” وغيرها من الجمل الرائجة منذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى، بيد أن هذه العملية نظرا لما أحدثته من مفاجأة وصدمة بفعل سريتها التامة فتحت الباب فورا أمام حزب الله للقيام بعمليات لو قام بها لوحده في توقيت مغاير لأدت لنشوب حرب مدمرة.

ويبدو أن الحزب استغل عملية طوفان الأقصى بذكاء حين بدأ عملياته ضد مواقع التجسس الإسرائيلية على طول الخط الحدودي من مزارع شبعا شرقا وحتى الناقورة غربا، وهي مواقع مجهزة بآليات وأجهزة اتصالات رصد متطورة وعالية الدقة تُقدم خدمة استخباراتية معمقة للإسرائيليين وتغطي عموم التراب اللبناني والسوري، في انتهاك صارخ للسيادة الوطنية والخصوصيات، فما كان أمام حزب الله سوى تدميرها وتعطيلها بالسلاح نظرا لتفوقها التكنولوجي وربما استحالة اختراقها سيبرانيا، ودون أن يلومه أي طرف لأنه يدافع أساسا على أمور سيادية بالدرجة الأولى.

حتى اللحظة لا يزال عمق الضربات المتبادلة بين حزب الله وإسرائيل منضبطا في مسافات لا تتجاوز 20 كلم على الأرض، ولو تأكد الجانب الإسرائيلي فعليا من عدم قدرة الحزب على الرد بنفس الحجم، لكانت ضرباته على لبنان أكثر عنفا مما نراه وكما كان في أوقات سابقة، لكنه يُدرك أن “المعضلة الدفاعية” متفاقمة عنده في الجبهة الشمالية، ورغم كل الحذر الظاهر علنا ففي حالة التوتر المرتفع كهذه كل شيء ممكن من كلا الطرفين.

حلبة الصراع تحتكم للنقاط

كان لافتا حديث نصر الله أن الصراع مع إسرائيل وحلفائها يُربح بالنقاط وأن وقت الضربة القاضية لم يحن بعد، فالأطراف المتصارعة في حلبة الشرق الأوسط لا أحد منها يمتلك مقومات الضربة القاضية، كما أن الوضع الدولي القائم لا يسمح للفوز بها في ظل تفاقم للمعضلة الدفاعية لدى كل الأطراف.

إذا عدنا إلى الوراء، سنجد عددا مهما من الجولات القتالية التي دارت على مدى السبعين عاما بين العرب سواء أنظمة دول أو حركات مقاومة وإسرائيل، اختلفت فيها النتائج النهائية حسب الظروف التي رافقت كل جولة أو معركة، بحيث نتائج الحروب بين الجيوش العربية وإسرائيل أو منظمة التحرير وحركة فتح ضد الكيان مغايرة تماما لما حدث ويحدث بين فصائل المقاومة ضد إسرائيل.

في عام 1948 انتهت الحرب العربية “الإسرائيلية” بتثبيت هذه الدولة وإعلان قيامها، ثم في عام 1967 انتهت الحرب التي فُرضت على عدد من الدول العربية أهمها مصر وسوريا باحتلال سيناء والجولان والمزيد من أراضي الدولة الفلسطينية، أما حرب 1973 وإن تحررت فيها سيناء فإن هضبة الجولان بقيت محتلة بل وانتهت بزيارة السادات لتل أبيب وبتوقيع اتفاقية السلام “كامب ديفيد” بعدها بسنوات، أما حرب الطائرات عام 1982 بين الجيش السوري وإسرائيل في البقاع اللبناني فانتهت باحتلال بيروت وكل الجنوب اللبناني، ومرت السنوات حتى تبنى العرب بأكملهم مبادرة السعودية أو المبادرة العربية للسلام في قمة بيروت 2002  “الأرض مقابل السلام”، فلا الأرض استرجعت ولا السلام تحقق.

أما عن منظمة التحرير وحركة فتح فنتائج أهم الجولات ضد “إسرائيل” كانت دوما لصالح الأخيرة، إذا انطلقنا من العام 1982 فاجتياح بيروت انتهى بطرد الحركة من لبنان نهائيا وإنهاء قدراتها العسكرية، ثم الانتفاضة الأولى 1987 انتهت بدون نتائج مرجوة بل تبعها بسنوات قليلة مؤتمر مدريد للسلام ثم اتفاقية أوسلو 1993 المُجحفة في حق الفلسطينيين، أما الانتفاضة الثانية سنة 2000 فتبعها حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات وبعدها وفاته التي يُعتقد في الغالب أنها اغتيال مباشر.

على الجانب الآخر، معارك المقاومة في لبنان التي يتزعمها حزب الله طيلة فترة الاحتلال الإسرائيلي انتهت بانسحاب قواته بدون شروط سنة 2000، ثم في جولة 2006 انتهت الحرب التي رُفع فيها شعار القضاء على حزب الله واسترجاع الجنود الأسرى ببقاء المقاومة على الأرض وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين على رأسهم سمير القنطار مقابل جنديين إسرائيليين قُتلوا أثناء المعارك.

 أما في قطاع غزة فحرب 2008 ضد الفصائل لتحرير الجندي جلعاد شاليط انتهت ببقاء الفصائل واستمرارها وصفقة تبادل أسرى تاريخية حررت ما يناهز الألف أسير مقابل جندي واحد، لتأتي جولات 2012 و2014 و2018 و2021 التي عززت حضور المقاومة وأثبتت قدرتها على تعميق أزمة المعضلة الدفاعية لدى إسرائيل كل مرة أكثر من سابقتها.

 أما عن عمليات الاغتيال الخاطفة التي قامت بها إسرائيل ضد القادة العسكريين والسياسيين فيُمكن اعتبارها النقاط غير المحتسبة في جولات الصراع بحيث لم تُحدث فرقا حقيقيا لصالح أصحاب العمليات أو تشل قدرة هذه الفصائل في استمرار العمل العسكري سواء دفاعيا أو هجوميا، أو تُحبط نفسية المقاومين فتنكسر خطوطهم الدفاعية فورا، وعملية السابع من أكتوبر دليل على ذلك.

الوضع الجيوسياسي مغاير والطوفان مستمر

إن هذه الجولة من الصراع مغايرة تماما لما حدث في السابق رغم أنها امتداد تاريخي وطبيعي لكل المعارك السابقة، وفي كلمة نصر الله الأخيرة  ما يؤكد على ذلك، بحيث أن التشديد على ضرورة انتصار غزة رغم الدمار والقتل المستمر وانتصار حركة حماس يعني هذه المرة إحباط مشروع “الشرق الأوسط الجديد” التي تحدثت إسرائيل والولايات المتحدة وامتداد للمكتسبات السابقة التي حققتها الفصائل داخل فلسطين وخارجها، وعلى الرغم من تشابه الوضع الحالي مع وضع حرب 2006 في المبدأ العام، إلا أن الأدوات وحجم الدعم العسكري والسياسي الغربي لإسرائيل مرتفع اكثر من السابق مع انعدام شبه تام لأي مبادرة عربية جدية توقف الحرب على القطاع الذي يُعول على صموده فقط ضد الاحتلال وآلة القتل.

لم يكن ممكنا من الناحية الواقعية أن يُعلن نصر الله في خطابه يوم أمس عن الحرب المفتوحة ضد إسرائيل إذا استمرت في حربها ضد غزة كما كان يتوقعه شريحة كبيرة من المتابعين، ولو فعل ذلك لأعطى المجال الواسع للتدخل الدولي واجتياح دول بكاملها كما حدث في العراق على مرتين حين ارتكب صدام حسين خطأ فادحا كان ثمنه هو إقامة القواعد الأمريكية بالخليج، ناهيك عن الجهوزية التامة للجيش الإسرائيلي وحلفائه وبالتالي غياب تام لعنصر المفاجأة والمباغتة الذي تعتمده الفصائل.

تختلف عناصر التفوق العسكري وعمق المعضلة الدفاعية لدى أطراف الصراع، وكل طرف يحاول القضاء على كل عنصر تفوق لدى عدوه، بالنسبة للإسرائيليين فسلاح الجو بمختلف أدواته سواء الهجومية أو الدفاعية يشكل عنصر تفوق حاسم في المعركة لم تستطع حتى اليوم فصائل المقاومة القضاء عليه، وتُحاول جاهدة تعزيز المكتسبات التي حققتها به عن طريق الغزو البري الشامل الذي تأكد فعليا أنها تعاني منه بشدة في ظل معاركها الحالية بقطاع غزة فقط، وبالتالي فأي انتصار عسكري قادر على تغيير الوضع الجيوسياسي لابد أن يتم من خلال التفوق الكامل على كل العناصر، أي الضربة القاضية ولا شيء غيرها.

إن عملية “طوفان الأقصى” وتطوراتها المستمرة في كل الجبهات أرست واقعا جديدا غير مسبوق في الشرق الأوسط، إذ الصراع “العربي الإسرائيلي” لم يعد بين الدول والجيوش النظامية ولن يكون كذلك مستقبلا، بل هو بين إسرائيل وحركات مقاومة مسلحة ومتطورة ذات عقيدة إسلامية بحتة استطاعت أن ترسم ما يشبه الطوق على هذه الدولة، وباتت الشعوب العربية والإسلامية على اختلافها تُعول عليها أكثر من أي وقت مضى لإسقاط هذه الدولة المحتلة وإزالتها ورسم خرائط جديدة في منطقة الشرق الأوسط.

حتى اللحظة، لا يمكن معرفة مستقبل ومآل هذه المعركة الطوفانية المعالم في كل تفاصيلها العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإنسانية أيضا، لكن ما نراه اليوم هو أنها جولة يحاول كل طرف أن يعزز رصيد نقاطه من الصراع قبل أن يُجهز على خصمه بالضربة القاضية، وعلى ما يبدو أن هذه الضربة إما يكون صداها محدودا في شرق المتوسط وغرب آسيا، أو يمتد حتى مضيق جبل طارق وما بعده غربا، وإلى بحر الصين الجنوبي شرقا.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button