القمع الفكّري للاقلام الفلسطيني : تفصيل ثانوي أم أزمة محُتلّ وداعميه
القمع الفكّري للاقلام الفلسطيني : تفصيل ثانوي أم أزمة محُتلّ وداعميه؟
مرح زياد الحصني*
إنّ تكميم أقلام الكُتاب الفلسطينيين في ظلّ الحرب القائمة على الأرض، والحرب الفكرية والثقافية والالكترونية ليس تفصيلاً ثانوياً بلّ مرآة تعكس بشكلٍ سافرٍ عجز الاحتلال.
لم يكن التفصيل الثانويُّ في رواية الكاتبة الفلسطينيّة عدنية شبلي “ثانوياً” كما يُظهر عنوان روايتها الصادرة عن دار الآداب عام 2017، التي وصلت عام 2021 في ترجمتها الإنجليزية إلى قائمة جائزة البوكر الدولية، وفي عام 2022 إلى القائمة القصيرة لجائزة الأدب الدولية التي تمنحها دار ثقافات العالم في برلين، والمترجمة إلى اللغة الألمانية حديثاً (تفصيل ثانويّ) بلّ كان القشة التي قصمت ظهر الكيان وداعميه ودفعتهم إلى سحب الجائزة التي منحتها لجنة تحكيم جائزة ليبراتور للكاتبة الفلسطينية عدنية والتي احتفت فيما سبق بالرواية معتبرةً أنها أكثر رواية تحدثت بشفافية عن سطوة الحدود وما تسببه من أحداث دامية بين البشر، والتي كان من المقرر أن تستلم جائزتها في معرض فرانكفورت، ولكن توازياً مع الأحداث الجارية في غزة تمْ منع شبلي من الجائزة بحجة أنها مُعادية للسامية (وإسرائيل) وتظهرهم بشكل مغتصبين همجيين.
ولأنّ لا أحد قادر على إخفاء الشمس بيده، انبرى نادي القلم في برلين للدفاع عن رواية شبلي حيثُ قالت المتحدثة باسمه، الروائية والمترجمة إيفا ميناسه إنَّ الرواية “لن تصبح مختلفة، أو أفضل، أو أسوأ، لمجرد تغير نشرة الأخبار”. وإنَّ سحب الجائزة من الروائية الفلسطينية والتي حصلت أصلاً على العديد من الجوائز عن روايتها ذاتها ما هو إلا ضيق أفق، ومحاولة لإسكات أي كلمة حق تُقال حتى لو كانت بين دفتَي كتاب قد لا يصل إليه الجميع، أو قد يمرُ كتفصيل ثانوي على القراء الذين يعرفون حقَّ المعرفة تفاصيل القصة الحقيقية في فلسطين من المقدمة حتى الخاتمة، وإنَّ المنع ما هو إلا دليلٌ على خوف الكيان وذيوله من أي كلمة قد تُطيح بموقفه وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما على هشاشة هذا الكيان الذي أعطى نفسه الأحقية للبروز على حساب حقّوق غيره.
أما عن الرواية فهي موزّعة على فصلين، تجري أحداث الفصل الأول ببطء وبرودٍ شديدين، حيثُ تبدأ من تاريخ 10 آب 1949 بعد عام على النكبة، وتتحدث عن الجنود الموزَّعين على الحدود في صحراء النقب، لترسيم الحدود مع مصر ومنع المتسللين من الدخول إليها، وينتهي الفصل الأول بحادثة اغتصاب الفتاة وقتلها، أما الفصل الثاني فيتحدث عن الفتاة الموظفة في رام الله والتي يمر معها خبر اغتصاب الفتاة وقتلها في يوم ميلادها وقرراها في الذهاب إلى مكان الجريمة للكشف عن ملابسات الحادثة.
ومما ورد في الرواية عن المقطع الذي يروي قصة قتل الفتاة: “كانت الفتاة تولول وهي تركض فارةً، ثم سقطت فوق الرمل قبل أن يُسمع في الفضاء صوت الطلقة التي استقرت في الجانب الأيمن من رأسها، وساد الهدوء من جديد. راحت الدماء تتدفق من رأسها إلى الرمل الذي امتصه بغير عناء، فيما تجمعت أشعة الشمس فوق ردفيها العاريين الذين كانا بلون الرمال. ترك الجنديُّ يعمل على شقِّ الحفرة، والنائب والرقيب والسائق يقفان قربه، رجع إلى المركبة، كان يرتجف حين اقترب السائق منهُ بعد برهةٍ وقال إنَها ربما لم تمتْ، لا يمكنهم تركها هكذا، يُفضّل التأكد من موتها، استمرّ وهو يرتجف، يشلّه ما يشبه التمزق في الأمعاء، قبل أن يُحرك فمه آمراً السائق أن يطلب من نائبه الرقيب أن يقوم بذلك، بعدها بقليل انطلق في الهواء صوت ستّ طلقات، ثم حلّ السكون مرةً أخرى، صبيحة13 آب 1949”.
تتمتَّع الرواية بخصوصية الحالة الفلسطينية، فبعد كلّ هذه الحروب والمجازر يعود الكاتب الفلسطينيّ إلى ذاكرته ينبشُ فيها ما يجده من أحداث ويسطّرُ لنا ذاكرة شعبٍ بأكملهِ، يروي آلام وأوجاع، يُزيلُ الضمادات عن جروحٍ قديمةٍ أثقلها قَيحُ الظلم والتجاهل السافر من قبل العالم بأكملهِ، وإنَّ منع مثل هذه الكلمات من الوصول إلى العالم دليلٌ قاطعُ على أثر الكلمة، والخوف السافر من قبل الاحتلال من تسطير التاريخ بين دفتي كتب الأدب، لأنهُ أضعف وبكثير من الوقوفِ أمام الحقيقةٍ المطلقةِ والثباتِ أمامها.
إنَّ سحب الجائزة من شبلي ليس التصرف الأول من نوعه في هذا المجال من محاولات إسكات صوت المقاومة الفكرية والثقافية والأدبية فقد سبق لفلسطين أن فقدتْ غسان كنفاني في محاولة دنيئة للكيان في إخماد صوت القلم الفلسطيني الذي يملكُ القدرة على إحداث حراكِ فكريّ مناهضٍ للكيان الإسرائيلي لا يُستهانُ به.
ولعل الشيء الذي أثارتهُ شبلي في روايتها يمثل اعترافاً واضحاً بمدى القوة الضخمة التي يُحدثها تأثير الأدب على كلّ من تقعُ حروف الأدب الفلسطيني بين يديه، فعندما ينتهي قارئ رواية تفصيل ثانوي منها يُصبحُ على درايةٍ تامةٍ بتفاصيل تاريخية وجغرافية عن أرض اسمها فلسطين، بالإضافة إلى ملامسته لمرويات واقعية يومية عن حياة بشر أبرياء مستباحة ظُلماً وعدواناً بسبب سطوة الحدود وعنف آلة الدمار، حيثُ يجد القارئ نفسهُ أمام حياة أشخاص محكومة بخوفٍ أبديٍ لا نهاية لهُ إلا بعودة الحقوق إلى أصحابها.
وفي أحد اللقاءات مع شبلي قالت في هذا السياق: “أدركُ أنّ الكتابة عما يجري في بلدي مهمة بالغة الصعوبة، لكن لا ينبغي للمرء أن يكتب عن الأشياء، بل مع الأشياء أو منها، لأنك حين تكتب عن شيء ما، فإنك تخلق علاقة قوة، إن اللغة العربية هي اللغة التي أشعر فيها بقدرٍ كبير من الحريّة، إنه ليس قراراً أداتيا أو سياسيا، بل هو قرارٌ لغوي، العلاقة حميمة وشاعرية وثرية، لم تكن لدي قط العلاقة التي تربطني باللغة العربية مع أي لغة أخرى، لكن علاقتي بوطني شخصيّة لا أدبيّة رغم أنّ البعدين، غالبا ما يتقاطعان إلا أنَّك حين تعيش في فلسطين فإنَّك تشهد شيئا مفزعاً على افتراض أنه ليس من واجب الأدب الحديث الكتابة عن ذلك، لكن يعدّ هذا واجبك كإنسان. ونحنُ نضيف لا مكان في فلسطين إلا للغةٍ واحدةٍ، وإن التاريخ الفلسطيني لن يكتب إلا بقلمٍ عربيٍّ فلسطينيّ، على دراية معمقة بكلّ تفاصيل هذه الأرض”
وفي النهاية يُمكننا القول: إن قمع سردية صاحب الأرض لن يُلغي أبداً أنهُ صاحب الأرض وقادرٌ في كلّ مناسبة أن يكتب عنها ويصدر حقائقها للعالم. وكما قيل في هذا الموضوع: يمكنكم حجب الجائزة لكن لا يُمكنكم حجب النور عن قضيتنا.
الكاتبة : مرح زياد الحصني: كاتبة واعلاميّة، خريّجة كلية الآداب قسم لغة عربية، وكلية الإعلام. وكاتبة حائزة على إجازة في القصة القصيرة في مجال الرعب.