مقال اليوم

انتقامُ إسرائيل من عمّال غزّة بعد الطوفان

إنتقام إسرائيل من عُمّال غزّة بعد الطوفان

مجدي المالكي وأحمد عز الدين أسعد*

معاناة قطاع غزة لا تقتصر على سكانها المحاصرين والمتواجدين تحت القصف، بل اتسعت دائرة المعاناة لتطال العمال الغزّيين العاملين في مناطق الـ 48. فمنذ عدة أعوام، بدأت إسرائيل بمنح تصاريح عمل لبعض سكان غزة، ممن يستوفون شروط الحصول على تصاريح العمل الإسرائيلية، إذ يقدَّر عددهم اليوم إلى ما يقارب 18 ألف عامل يعملون في المنشآت الإسرائيلية.

وبعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” وبعض فصائل المقاومة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قامت الشرطة الإسرائيلية بإلغاء كافة تصاريح عمل هؤلاء العمال، وبدأت بجمعهم وطردهم بطرق وحشية إلى مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

وصل معظم هؤلاء العمال إلى المدن والبلدات الفلسطينية المختلفة في الضفة الغربية لا يحملون معهم إلا القليل من أمتعتهم الشخصية وبعض النقود. فاستقبلتهم المؤسسات الفلسطينية، وتحديداً مكاتب المحافظات والمؤسسات الأهلية وبعض المدارس والفنادق وشركات القطاع الخاص.

وكما صرّح أحد الموظفين في مكتب محافظ رام الله، أنهم لم يتوقعوا وصول هذا العدد الكبير من العمال الغزّيين دفعة واحدة لأن المؤسسات في المدينة غير جاهزة لاستقبال كل هؤلاء العمال. فقد وصل إلى المدينة، أي مساء يوم الأربعاء 11 تشرين الأول/أكتوبر، ما يقارب 300 عامل، ثم بدأت المحافظة باستقبال أعداد متزايدة طوال الأيام اللاحقة. ويقول مدير نادي سرية رام الله الأولى خالد عليان “لقد استقبلنا في البداية كامل قدرتنا الاستيعابية، أي 75 عاملاً، بعد أن طلب منا مكتب المحافظة ذلك بشكل مفاجئ، إلا أننا تفاجأنا في اليوم التالي بوصول مئات العمال إلى المؤسسة، وهو ما خلق أزمة في مرافق المؤسسة وأماكن السكن فيها، وإزاء كافة المتطلبات الأُخرى، فنادي السرية لا يملك سوى مرافق رياضية ومتطلباتها من حمامات بسيطة، لذلك، هو غير مؤهل لاستقبال وافدين للإقامة والمبيت، حيث سكن هؤلاء العمال في ملاعبها الرياضية، بعد أن تبرع أعضاء السرية وأهالي المدينة بمستلزمات المبيت والمتطلبات الأساسية الأُخرى.”

لكن التضامن الكبير الذي أبداه أهل المدينة وقراها مع هؤلاء العمال الوافدين كان له الأثر الكبير في التخفيف من معاناتهم وتوفير كل ما يلزم لمؤسسات المدينة. لقد هبّ سكان المدينة لاستقبال العمال الغزّيين الوافدين بكثير من الترحاب والتضامن، فقدم الأهالي والمؤسسات المدنية التبرعات العينية والمالية لتوفير حاجاتهم الأساسية، وتوجه وجهاء المدينة والوفود الرسمية والأهلية إلى مراكز الاستقبال لمؤازرة العمال الغزّيين والتبرع وتقديم المساعدة بشكل كبير.

رواية العمال: التضامن الشعبي والتوجه إلى رام الله

يقول أحد هؤلاء العمال، “كنا نعمل مجموعة في مهنة القصارة في شفاعمرو في مناطق الـ 48، كان صاحب العمل مؤمّن سكن وعمل لنا، وفجأة، وقعت الحرب في غزة، ونحن من جباليا البلد، ومن منطقة بيت لاهيا في الشمال. بدأت الحرب، وأصبح علينا خطر، لم نستطع التحرك في الداخل. تم ضرب عمال غزة في الداخل والاعتداء عليهم، وشعرنا بالخوف والتهديد بالترحيل، بقينا في العمل حتى اليوم (يوم الأربعاء 11تشرين الأول/ أكتوبر)، بعد أن أصبح الخطر مباشراً، وأصبحت الشرطة تطارد العمال، لم نستطع الاستمرار في العمل، وبقينا في السكن من دون عمل، ولم نستطع الحصول على الأكل والحاجات الأساسية في ظل ملاحقات الشرطة وانتشارها في الشوارع، اضطررنا نقطع من الشمال إلى حاجز أم الريحان في جنين، ثم القدوم إلى رام الله… لقد تم سحب تصاريح العمل منا في الليل عبر تطبيق المنسق، وأصبحنا غير قانونين. شاهدنا دعوة على الفيسبوك أن ليلى غنام، محافِـظة رام الله نشرت على الفيسبوك عن استقبال عمال غزة، فأتينا بعد مشقة ومساعدة أهالي شفاعمرو. فالناس في شفاعمرو ما قصروا وساعدونا، لكنهم نصحونا بالعودة، أو الانتقال إلى مناطق الضفة الغربية، وبما أن العودة إلى غزة أصبحت خطِرة ومستحيلة، اضطررنا إلى التوجه إلى رام الله. وللحقيقة، استقبلتنا المحافِظة وأهالي مدينة رام الله بكثير من الترحاب، ولا ينقصنا هنا أي شيء سوى سماع أخبار مطمئنة من أهالينا في غزة.”

انتقل العمال الغزّيون إلى رام الله، كونها الأكثر أمناً من مناطق أخرى، ويقول أحدهم انه أتى إلى رام الله بعد اتصال من عمال آخرين قالوا إنهم وصلوا إلى رام الله، وأن محافظة رام الله والبيرة أمّنت مبيتاً ومسكناً لعمال غزة، وقد توافدوا إلى رام الله يوم 10 تشرين الثاني/أكتوبر 2023، وكان عددهم نحو 600 عامل، وبالتدريج، بدأ العدد بالازدياد سريعاً إلى أن وصل إلى نحو 3000 عامل في مدينة رام الله وحدها.

يقول أحد موظفي محافظة رام الله أنه عندما علِم شباب رام الله وأهلها بقدوم عمال غزة، بدأوا بحملة شعبية لجمع تبرعات والتطوع لتزويد العمال بحاجاتهم الأولية والبسيطة، وكان هناك شبان يطلبون أن يكون غداء العمال في اليوم التالي لديهم، وكان الموضوع فزعة اجتماعية كما هو شائع في المجتمع الفلسطيني.

وعلى الرغم من مؤازرة أهالي وسكان المدن في الضفة الغربية لهؤلاء العمال، وتوفير كل مستلزماتهم، فإننا لاحظنا، خلال زياراتنا إلى بعض مؤسسات الاستقبال، القلق الذي يعيشه معظم هؤلاء العمال على أهاليهم وعائلاتهم في القطاع، إذ تمر ساعات انتظارهم بتوتر وخوف كبير، خشية من الأخبار التي قد تصل من بلداتهم ومدنهم. فهم يعيشون فعلاً أوقاتاً صعبة، بعيدين عن أهاليهم الذين يعانون تحت القصف والغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة منذ ظهر يوم السبت 7 تشرين الأول/أكتوبر. وعلى الرغم من حالات القلق والخوف ونقص الحاجات لدى العمال، فإن الدفء الاجتماعي بتواجُدهم بين أفراد الشعب الفلسطيني ورعايتهم من مؤسسات فلسطينية، كان مهماً على المستويين النفسي والهوياتي، وبالصدفة، كان أحد عمال غزة القادمين إلى رام الله أسيراً في السجون الإسرائيلية، فالتقى شاباً فلسطينياً من قرى رام الله، كانا معاً في السجن نفسه، التقيا قرب دوار المنارة، وتبادلا الحديث والتطمينات والمجاملات، بعد سنوات من الغياب، وربما النسيان، وهذا مؤشر مهم إلى الألفة الاجتماعية والتلاحم والتضامن الشعبي، واستفتاء على المصير الفلسطيني المشترك لكل الفلسطينيين في كل التجمعات الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها.

التضامن والحرب: عمال قطاع غزة وفزعة أهل رام الله ومؤسساتها

يبدو القلق والتوتر على هؤلاء العمال الذين يتابعون هول الحرب التي يتعرض لها قطاع غزة الأعزل، ويصفونها في أكثر من حديث بأنها حرب إبادة، وإبادة جماعية، وتطهير عرقي، وتهجير، ويرى العمال أن هذه الحرب تختلف في قوتها وشدتها عن الحروب السابقة منذ 2008-2021، وهو ما يثير قلقهم على أهاليهم وعائلاتهم، فيسردون الأخبار والقصص التي تصلهم من ذويهم بألم وتوتُّر. أحد العمال وصله خبر استشهاد 3 من أفراد عائلته، فأجهش بالبكاء منفرداً في إحدى زوايا النادي وتجمّع زملاؤه حوله لمؤازرته. وآخر وصلته أخبار بأن منزل العائلة والحيّ الذي يسكنه تعرّضا للقصف، ولا يعرف ما أصاب أهله، فانشغل بالاتصال والتواصل مع أقاربه.

بعض هؤلاء العمال مصاب بأمراض مزمنة وخطِرة، فمنهم مَن يعاني من مرض السرطان، وبعضهم يعاني جرّاء أمراض السكري وارتفاع ضغط الدم، ولا توجد بحوزتهم ما يحتاجون إليه من أدوية، كونهم غادروا أماكن سكناهم في الورش الإسرائيلية بشكل مفاجئ. وبعضهم تعرّض للضرب والإهانة من رجال الشرطة وحرس الحدود عند نقله إلى أراضي السلطة الفلسطينية، والبعض الآخر تعرّض للنصب واحتيال من المشغلين الإسرائيليين.

كثيرون منهم يسردون قصص معاناتهم في الأيام الأولى من اندلاع الحرب، فيقول أحدهم إنه كان محجوزاً داخل مطعم في غرفة العروس في قاعة الأفراح التي يعمل فيها في منطقة “ريشون لتسيون”، ويقول إنه كان في حالة خوف على نفسه، كونه كان قريباً من انفجارات الصواريخ في منطقة “حولون”، ويقول إنه انتقل إلى الملجأ في المطعم، بعد أن اتصل به أصدقاؤه الذين كان يعمل معهم سابقاً، ليتجمعوا معاً في أحد الأماكن الأكثر أمناً في المطعم الذي يعملون فيه، إلى أن جاءت الشرطة الإسرائيلية واعتقلتهم، على الرغم من أنهم يحملون تصاريح عمل، وبلّغتهم أن تصاريحهم انتهت، وحملتهم إلى أحد المعابر لترحيلهم إلى الضفة الغربية.

يتحدث العمال ويتناقلون أخبار أحيائهم وبلداتهم في القطاع فيما بينهم، فيقول أحد العمال لزملائه أنه تم قصف حيّ الدرج بجوار منزله في ليلة الأربعاء سبع مرات على الأقل، وطوال الليلة، كانت عائلته مستيقظة جرّاء الخوف، أكثر من 12 ساعة والقصف مستمر.  ويقول عامل آخر إن “الأمور سيئة، ما في هدوء في غزة، لا يستطيع الناس النوم، قصف مستمر، صوت القصف والاهتزازات في كل قطاع غزة.” ويصف عامل آخر، بتأثُّر وقلق، “هذه الحرب حرب إبادة شاملة، يقصفون مربعاً سكنياً كاملاً، ما في تحذير قبل القصف، القصف يستهدف السكان والمساكن، وإذا استمر القصف بهذه الوتيرة، سيتم محو أحياء ومناطق بأكملها من غزة، وفصل مناطقها عن بعضها البعض، ونحن المدنيين وأهالينا الذين يدفعون الثمن، فقد تم قصف: الجندي المجهول، حيّ الرمال، أبراج الكرامة، حيّ الدرج، المسجد الكبير في خانيونس؛ لقد تغيرت معالم غزة، ويبدو أنهم يريدون فصل مناطقها عن بعضها البعض.”

يقول عامل آخر، “أخبرتني عائلتي أنه جرى ترحيل مناطق كاملة إلى مكان آخر، قصف عشوائي عنيف غير طبيعي، وكميات متفجرات كبيرة ومهولة، وقطع للكهرباء والماء. القصف انتقامي، حرب، قصف، إبادة جماعية، وهذه الحرب ليست مثل الحروب السابقة، شوارع بكاملها، عمارات بكاملها تم قصفها، غزة دُمّرت.”

هؤلاء العمال قلقون على زملائهم العالقين في المناطق السكنية الإسرائيلية، حيث أصبح وضعهم خطراً نتيجة موجة العنصرية والأعمال الانتقامية التي يمارسها الإسرائيليون وقوات الشرطة وحرس الحدود بحق العمال العرب من غزة، أو الضفة الغربية. ولإيجاد وسيلة نقل تقلّهم إلى الضفة الغربية، غالباً ما يخضع هؤلاء العمال للابتزاز والاستغلال، فبعضهم طُلب منه مبالغ مالية باهظة في مقابل نقله في التاكسي أو الحافلة إلى رام الله، المبلغ يتراوح بين ما يقارب 1000-2000 شيكل، وخصوصاً العمال المتواجدين في مناطق سكنية إسرائيلية.

بعد مضيّ نحو عشرة أيام على استقبال هؤلاء العمال في المؤسسات الأهلية والمدارس في مدينة رام الله، وفي بعض المدن الأُخرى، تم نقل العديد منهم للسكن في بعض المؤسسات الحكومية في مدينة أريحا، أو للسكن في بعض الصالات الرياضية والمرافق العامة التابعة للبلديات والسلطات المحلية. وما زال الأهالي يتوافدون إليهم ليقدموا لهم ما يلزم من مساعدات نقدية وعينية وطبية، عسى أن يخفف ذلك من معاناتهم وقلقهم الدائم على ذويهم. فالعمل الإغاثي الرسمي وغير الرسمي والمبادرات الفردية والجماعية ما زالت راسخة في تقاليد وأعراف المجتمع الفلسطيني، ولا شك في أنه في مثل هذه الأزمات واللحظات الحرجة، ترتفع وتيرة العمل التكافلي، وتتعزز روح التضامن لدى الشعب الفلسطيني، وهذا ما تجلى سابقاً خلال أزمة وباء كورونا، وخلال الانتفاضتين الأولى والثانية، وخلال الحروب على غزة في الأعوام السابقة.

* مجدي المالكي: باحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

أحمد عز الدين أسعد: محاضر في جامعة بيت لحم، وباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button