ملاحظات أوليّة على طوفان مفصليّ قد يمتد إلى الخارج
ملاحظات أوليّة على طوفان مفصليّ قد يمتد إلى الخارج
سامي كليب:
يحتاج ما حصل في فلسطين اليوم قليلاً من الوقت لمعرفةِ كلّ أسبابِه ورصدِ تطوّراته المُحتملة في الداخل والخارج، لكنّ الأكيد أنّه أمرٌ غير مسبوق، وأنّ النجاح بالتحضير له بعيدًا عن أعين إحدى أهم استخبارات العالم، وتنفيذه بدقة من البرّ والبحر والجوّ، وأسرِ عددٍ كبير من الإسرائيليين بين مستوطنين وغيرهم، أمورٌ تفترض أنّ ما بدأ لن ينتهيَ قريبًا، وأنّ المنطقة أمام حدثٍ مفصليّ قد يمتدُّ إلى لُبنان وسوريا وصولاً إلى إيران.
وهذه أبرز الملاحظات الأوليّة:
- إنّ تزامن العملية المفصليّة مع ذكرى حرب تشرين 1973، قد يكون مقصودًا في بُعده العربيّ، وقد لا يكون، لكن أن تأتي عملية ” طوفان الأقصى” غداة الذكرى، وبينما كان الناطق باسم الجيش الإسرائيلي يتبجّح عبر وسائل التواصل الاجتماعي بقدرات إسرائيل، فهذا يحمل رسائل كبيرة وعميقة لاسرائيل وحلفائها ولكن ايضًا للشارع العربي الذي عبّر مباشرة او من خلال وسائل التواصل عن ابتهاج كبير بما حصل.
- جاءت عملية ” طوفان الأقصى” بعد ان شهدت الضفّة الغربيّة والقدس الشرقية، هجماتٍ دمويّة في اليومين الماضيَين، نفّذها جيش الاحتلال وأدّت إلى استشهاد 5 فلسطينيين، واعتقال العشرات، وذلك فيما كان المستوطنون ينفّذون اعتداءاتٍ وحشيّة على مناطق عديدة في حَوّارة ومدن أخرى.
- إنّ الأسلحة وطريقة التنفيذ وعمليّة التمويه الواسعة التي حصلت، أثبتت أنّ الفلسطينيّين انتقلوا إلى مستوى أعلى من الحرب مع عدوّهم، بحيث ما عاد الجوُ (حيث التفوّق التاريخي الإسرائيلي على العرب) عصيًّا عليهم، وصار البحر والبرُّ (المُحاصران بإحكام من قبل الجيش الإسرائيلي والاستخبارات)، قابليَن للاختراق والتمويه وتنفيذ عملية كُبرى بهذه الدقّة.
- إنّ تركيز الجهد العسكريّ الأكبر على اختراق مستوطنات وأسرّ مستوطنين وتدمير آلياتٍ عسكريّة فيها، مقصودٌ تمامًا ليس لأن المستوطنات تتقدّم على غلاف غزة بعدما قضمت جُزءًا كبيرا من فلسطين بما فيها مناطق الضفة التي كان من المُفترض وفق اتفاقات أوسلو الاَّ تُقام فيها المستوطنات (المستعمرات)، بل أيضًا لأنّ مسألة المستوطنات صارت، وفق ما بقي من ضميرٍ عالميّ، سببًا وجيهًا للضغط على إسرائيل وتحميلها مسؤولية إعاقة التفاوض. بهذا المعنى تستطيع المقاومة الفلسطينيّة القول للعالم، نحنُ اخترقنا ما تعتبرونه أنتم غير شرعيّ.
- إنّ العدد الكبير من الصواريخ التي اُطلقت باتجاهات عديدة ووصلت حتّى القُدس، أشار بوضوح إلى أنَّ ترسانة الصواريخ عند الشباب الفلسطيني، صارت كبيرة جدًا، وهنا السؤال: كيف وصلت الى الداخل؟ وكيف تُصنّع؟، وأين كانت تختفي كلّ هذه الفترة، طالما أنَّ استخبارات إسرائيل توحي بأنّها تعرف النملة إن دبّت على الأرض.
- إنّ الهلع الذي أصاب أبناء المستوطنات، والصدمة والمفاجأة الكُبريين اللتين عبّر عنهما ساسةُ وإعلام إسرائيل، أمورٌ ترفع مستوى قلق الشعب الإسرائيلي حيال جيشه، وتضع الحكومة ورئيسَها وأحزابَها على متفرق طُرق. ففي الأمر صدمة وجوديّة، تُضاف إلى هزائم سابقة أصيب بها الجيش الإسرائيلي في لُبنان وغزّة، وتدفع للتفكير عميقًا بحاضر ومستقبل هذا الجيش الذي كان الإسرائيليون يُعلّقون على قوّته أهمية قصوى للبقاء على أرض فلسطين المُحتلّة، لا الرحيل.
- لا شكّ في أن مصير بنيامين نتنياهو صار على المِحك، خصوصًا ان الجيش الإسرائيلي حذّره في الأيام الماضية من التمادي في الضغط الأمنيّ وطالبه بفتح آفاق سياسيّة، وذلك بعد ما حصل في الضفّة والقدس الشرقيّة مِن قتل واعتقالاتٍ لشبّان فلسطينيين. لكنّ الرجل المتطرّف بطبعه والرافض أيّ تنازل ( راجع كتابه مكان بين الأمم)، صار أسير فكره المتطرّف من جهة وعنجهيّته وغروره ولكن أيضًا أسيرَ تحالفاتِه مع أحزاب متديّنة ومتطرّفة تُناصر المستوطنات ونهب الأرض وتهويد فلسطين.
- إنّ العملية حصلت فيما كان الرئيس الأميركي جو بايدن يقول للعالم إنّه يتجه لبناء خطوط سكك حديد وطرق مواصلات تنطلق من الهند عبر بحر العرب إلى الامارات العربية والمملكة السعودية فالأردن وإسرائيل صوب أوروبا، وكان مع إسرائيل يتحدثان عن قرب التطبيع بين الرياض وتل أبيب. وكان بعض المحلّلين يرون أنَّ خط الهند أوروبا، هو محاولة لتطويق خطة الصين المعروفة باسم ” الحزام والطريق”. بهذا المعنى فإن عملية ” طوفان الأقصى” قد تدفع خصوم الأطلسي لدعم مفاعيلِها ولو بعيدًا عن الأضواء.
السؤال المحوريّ الآن، بعد أن تحاول إسرائيل تصوير المعركة على أنّها ” إرهاب” ضدّها، وبعد أن يتقاطر الغربُ إلى دعمِها، كالمعتاد، على اعتبار أنّها حمامة سلام مُعتدى عليها، ماذا سيحصل؟
نتنياهو بحاجة الى الانتقام ردًّا لبعض الاعتبار، والجيش الإسرائيلي والاستخبارات يحتاجان ردًّا للتخفيف من الصدمة الوجوديّة لشعبهم. ليس مُستبعدًا إذًا أن نشهد في الساعات والأيام المُقبلة ارتفاعًا في مستوى التصعيد العسكري تحت ما اسمته اسرائيل ” السيوف الحديديّة” ( وكأنما هناك سيوف خشبية!!)، يتركّز على الداخل وعلى قادة كتائب القسّام. وقد يرفع نتيناهو مستوى المواجهة عبر اتهام دولٍ وأحزابٍ خارجيّة بدعم ما حصل من حزب الله إلى دمشق فإيران، ويقوم بتنفيذ عملياتٍ مفصليّة لاحقًا، ما قد يؤدي إلى توسيع رقعة الحرب. وهُنا لا بُدّ من سؤال عمّا إذا ما كان الذي قامت به كتائب القسّام مُنسّقًا مُسبقًا مع أطراف في المحور، وما إذا كانت هذه الأطراف تُريد هي الأخرى الانخراط في ما هو أوسع؟ ربما ليس من صالِحها التدخّل الآن خصوصًا إذا بقي الفلسطينيون قادرين على الإمساك بزمام المبادرة. لكن لا شيء سيمنع في لحظة معينة وربما قريبا فتح كوّة في منطقة مزارع شبعا، وربما لاحقا في الجبهة الجنوبية لسورية… يبدو هذه المرة أن المحور يتحرّك على نحو متّصل لكن بشكل متدرّج، واذا شعر بالحاجة الى التدخل لن يتردّد مهما كانت النتائج.
لكن عملية الأسر الواسعة التى نفّذها الفلسطينيون ضد إسرائيليين عسكريّين ومستوطنين ، ستفرض التفاوض عاجِلاً أم آجلاً، وهذا سيحصل حتمًا بعد محاولة إسرائيل الانتقام، لانَّ التفاوض من موقع الضعف سيكثف مفاعيل الصدمة الوجوديّة.
هي لحظة مفصليّة إذًا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وربما العربي الإسرائيلي حتّى ولو كانت الاعنف حاليًّا، وذلك لو أحسن النظام الرسمي العربي انتهازَها للضغط مع بعض الحلفاء الدوليّين غير المنحازين لإسرائيل، لفرض نمط جديد من التفاوض، يُجبر إسرائيل على الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتُها القدس، ويوقف زحف المستوطنات، ويفك الحصار عن غزة وغيرها، ولربّما تغيّر وجه المنطقة.
هذا طبعًا إذا تخلّت إسرائيل عن بعضِ غرورِها واقتنعت بأن العنف سيزيد عزيمة الفلسطيني لإزالة الاحتلال وليس العكس.