كيف يعمل العالم حقّاً
كيف يعمل العالم حقًّا؟
روزيت الفار-عمّان
فاكلاف سميل Vaclav Smil المؤلّف والعالِم الموسوعي التّشيكي؛ الّذي تناولت أعماله حقولاً معرفيّة متعدّدة، أظهر تميّزاً فائقاً في قدرته على ربطها ببعضها، كاشفاً من خلاله تأثير كلٍّ منها على الآخر في “حقيقة عمل العالم”.
ركّزت مؤلّفاته، الّتي بدأها عام 1976 وتوالت بعدها بانتظام لتتجاوز الأربعين، على كيف صُنع العالم الحديث، وكيف يعمل العالم حقّاً، عبر بحثِه العلميّ الدّقيق المبني على دراسات وأرقام كشفت عن وجود حقائق جوهريّة وضروريّة للوجود. احتلَّت الطّاقة وإنتاج الغذاء مقدّمتها، فهما بنظِره يشكّلان عماد الحياة وأُطرها الرئيسيّة. كذلك التّاريخ البشري الّذي أكّد ارتباطه الوثيق بتحوّلات الطّاقة، وله أيضاً مساهمات مهمّة في البحوث السّياسيّة والاقتصاديّة اعتمدها مشاهير العالم في وصولهم للنّجاح.
في مقدّمة كتابه المُهم الصّادر عام 2022 “كيف يعمل العالم حقّاً”، يتناول سميل شرحاً يفسّر أسباب حاجتنا لقراءة الكتاب؛ والّتي يلخّصها بضرورة الفهم. فهمنا لجميع الحقائق الجوهريّة الّتي تكلّم عنها؛ إذ ما رغبنا في معالجة وتصويب المشاكل والتّحدّيات الّتي نواجهها بكفاءة وفعاليّة، والاستفادة من الفرص وتعظيمها وجعلها مُستدامة.
أهم تلك الحقائق:
- فهم الطّاقة. وتعرّف علميّاً بالقدرة على العمل. وبالمفهوم المادّي هي لدى سميل،الوقود بأنواعه والكهرباء.
“إنّ تاريخ كوكبنا هو تاريخ تحويل هذه الطّاقة”، بدءً من البكتيريا وحيدة الخليّة الّتي اعتمدت تحويل الطاّقة الشّمسيّة داخل جسمها للنّمو والحركة؛ مروراً بالإنسان البدائي العاقل Primate Homo Sapiensوصولاً للإنسان العصري الّذي واكب أثناء تطوّرِه؛ تطوّر مصادر الطّاقة وتحوّلاتها؛ فتعدّى مكان عملها داخل الجسم وأصبحت تستخدم خارجه كعامل أساسيّ للنموّ والعمل والحركة، وهو ما غيّر جميع أوجه الوجود البشري.
قال ايرون شرودينغر، الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل 1933، بأنَّ الكائن الأفضل في الحصول على الطّاقة المتاحة “المجّانية” هو مَن يملك ميزة التّطوّر. –ما يفسّر أسباب الصّراع والحروب الطّاحنة بين دول العالم منذ الأزل.
- فهم انتاج الغذاء. أصبح ينظر للغذاء كوقود نأكله. إذ تقاس تكلفة إنتاج كلِّ صنفٍ منه بتكلفة ما يستنفذه من وقود منذ زراعته وحتّى جاهزيّته للأكل، بعد أن كان يقاس بالسّابق بالطّاقة البدنيّة (بعدد ساعات العمل البشريّة وساعات عمل الثيران) لزراعة هكتار من الأرض. فمثلاً تكلفة الكيلوغرام من البندورة قد تكون 100 ملليتر من الوقود.
- فهم العالم المادّي. ويشمل الرّكائز الأربعة للحضارة الحديثة، وضرورة الاستمرار في تصنيعها. وهي الفولاذ والبلاستيك والأمونيا والإسمنت، ودحض الوهم التّكنولوجي الماثل بقرب الاستغناء عنها.
- فهم العولمة. كضرورة انفتاح العالم على بعضه، الأمر الّذي أصبح لدى سميل من الماضي ووجده قابلاً للنّقد والجدل وذلك بعد بدء التّوجّه نحو القوميّة والتّركيز على واقع الشّعب الواحد Populism and Nationalism.
- فهم المخاطر الوجوديّة. كالفيروسات والأنظمة والحميات الغذائيّة وقضيّة الاحتباس الحراري.
- فهم البيئة. المحيط الحيوي الوحيد الّذي نمتلك، وتضاعف نسب التّلوّث الكربوني الّذي لا يمكن التّخلّص منه بحلول 2050كما يُعتقد.
- فهم المستقبل. نهاية العالم والتّفرديّة. هل نحن ذاهبون حقّاً نحو النّهاية أم نحو المدينة الورديّة الفاضلة؟
يذكر سميل في مقدّمة كتابه ظواهر وقعت بالقرون الثّلاثة الّتي تلت ح.ع.ث والّتي لم تتمتّع بها الأجيال الثّلاثة الّتي عاشت قبل ح.ع.أ. واعتبرها مرحلة انتقاليّة نوعيّة أثّرت في أساسيّات الحياة. منها: التّطوّر غير المسبوق في مستوى المعيشة. حيث دعم الوقود الأحفوري بالقرن العشرين ما يسمّى بالثّورة الخضراء وهي الوفرة بمعدّل المحاصيل، وخصوصاً، الاستراتيجيّة كالقمح والذّرة، وفي تطوير أماكن العمل وأساليب الإنتاج وإيجاد أسمدة ومبيدات ساهمت جميعها بتلك النّقلة.
على الرّغم من أنّ 1/5 سكّان العالم فقط كانوا الأوفر حظّاً بالاستفادة منها؛ غير أنّ وفرة المحاصيل كانت كافية للجميع. كذلك تطوير لقاحات لأمراض وأوبئة سلبت وهدّدت حياة الكثيرين. ناهيك عن مجال التّقدّم المتسارع في العلوم والتّكنولوجيا والانتقال من مرحلة المعرفة السّطحيّة إلى المعرفة المُفصّلة والدّقيقة.
عزا سميل أسباب نقص المعرفة حول “كيف يعمل العالم حقّا”، إلى “تعقيدات الحياة”. فالنّاس تتفاعل عادة مع الصّناديق السّوداء؛ والّذي لا تتطلّب مخرجاتها البسيطة فهماً واسعاً لما يجري بالدّاخل. فعند استخدامنا للأجهزة الإلكترونيّة مثلاً؛ لا نأبه بمعرفة أساسيّات عملها.
كيف كان للمكننة (إدخال الآلة في العمل) Mechanization علاقة مباشرة بالتّحضّر (التّوجّه نحو المدن) Urbanization وتفسيراً لعدم فهم كيف يعمل العالم؟
منذ العام 2007 أصبح أكثر من 50% من سكّان العالم و80% من شعوب الدّول الغنيّة يعيشون بالمدن، ما يعني انفصالهم وعدم تعرّضهم لكيفيّة صناعة الغذاء ولعمليّات تصنيع مواد ركائز الحياة الأساسيّة (الحديد الصّلب والبلاستك والإسمنت). ممّا قلّص من أعداد المنخرطين في رفد الطّاقة وصناعة المواد الّتي يضمّها عالمنا الحديث.
فالعقول الرّاقية، طبقاً لمفهوم الحداثة، لا يعمل أصحابها بالأرض ولا تنغمس أيديهم بعمليّات صهر الحديد أو صناعة الإسمنت. يرى مناصرو الحداثة بأنَّ الرّقميّة قادرة على إلغاء كلّ مّا يتعلّق بالعمل البدني، وبأنّ الإّنتاج المتّصل بشريّاً بالأرض بات غير ضروري.
إنَّ التّجريد من الطّابع المادّي والتّحوّل نحو الرّقميّة بالكامل، أمر يراه سميل غير منطقي، فهو يعني العمل خارج محيط كوكب الأرض. وكيف نكون بحاجته إن كنّا نسعى لتحويل كوكب المرّيخ ليكون كالأرض صالحاً للعيش فيه؟
بالطّبع جميع هذه الأمور أوهام برأي سميل وتنبّؤات ناتجة عن زيف بالمعلومات واختلاط الحقيقة بالخيال.
نُشرت مؤلّفات سميل، الصّديق والمُلهم الأقرب والكاتب المفضّل لدى بيل غيتس في أهمّ الجامعات العالميّة مثل أوكسفورد وMIT وPenguin House أكبر دار نشر أمريكيّة متخصّصة بنشر الكتب والنّشرات العالميّة المهمّة.