تزويرُ التاريخ والتّغاضي عن أكثر الأحداثِ خطورةً
تزويرُ التاريخ والتّغاضي عن أكثر الأحداثِ خطورةً
ميشال ريمبو Michel Raimbaud *
ترجمة عن الفرنسيّة : مرح إبراهيم
Mondialisation.ca, 12 août 2023
في ظلّ الزّمنِ المكفهرّ الذي نعيش، حيثُ يتجلّى بلا خجلٍ انحطاطُ الغربِ، بمجتمعاتِه ونُخبه، على الصّعيد الأخلاقي والفكريّ والسّياسيّ، غدا إنكارُ الماضي وإعادةُ كتابة الوقائع، في ما يسمّى “الديمقراطيات العظمى”، التي تزعمُ سنّ القانون وإرشادَ البشريّة، الحيلتينِ الأساسيّتين وراءَ “السّرد” الذي يمثّل خيط “التِّاريخ” النّاظم. نتيجةَ بضعة قرونٍ من الهيمنة، اتّضحَ الموقف ـ لا بل الخدعة ـ بكلّ ألقه، عندما وجدت أميركا نفسها مدفوعةً إلى الإمساك بزمامِ العالم بعد إغراق الاتّحاد السوفييتيّ، منذ أكثر من ثلاثة عقود. سرعانَ ما ارتسمَ بتبجّحٍ ينمّ عن فجورٍ واضحٍ وصريح… الغربُ ينصّ على القانون وأميركا تختلقُ التاريخ… ممّا يتيح لحكَام “حلف الخير” المزعوم اختيارَ الأولويّاتِ الطارئة وشنّ الحروب المتعاقبة التي “يفرضها” سلوكُ جزءِ البشريّة المنبوذ، أي هذه “الغابة” التي تضمُّ، مع عدم المؤاخذة على ضآلة الرقم، 85 بالمئة من سكّان الكوكب…
دون أن أتعمّد تعكيرَ قيلولةِ الصّيف ومِزاج المصطافين بالتطرّق إلى مآسٍ تبلبلُ البهجةَ، يبدو لي ما يسوّغُ القلقَ من صخب “الأبواط” العسكريّة، والتّصريحاتِ الحربيّة، ومزاعم «الخبراء» و«المفكّرين»، الذين يستبعدون أي احتمالِ تفاوضٍ، أو أيّ تلميحٍ للدبلوماسيّة، كما لو كان اقتراحُ أيّ بديلٍ عن الحرب، ولو تمتمةً، بمثابةِ بدعةٍ أو إجرام أو نسجَ خيال…
باتَ شائعًا تزويُر التّاريخِ والتّغاضي عن الأحداثِ الأكثر خطورة. في صيفِنا هذا حيثُ ينتثرُ ضوعُ الشكِّ، يبدو أنّ ما حدث في اليابان في السّادس، ثَمّ في التاسع من آب/أغسطس من العام 1945، لم يُحرز النجاحَ المطلوب في الغرب، في ما عدا استثناءاتٍ قليلة، ينبغي إنصافها الإنصافَ الذي تستحقّ. وهنا أسمحُ لنفسي أن أضمّ صوتي إلى موكبِ الذّاكرة الضئيل، هامسًا لفظتينِ، من شأنهما محاكاةُ رجالٍ ونساءٍ بنوايا حسنة: هيروشيما، ناغازاكي.
في السّادس من شهر آب/أغسطس عامَ 1945، عند السّاعة الثّامنة والرّبع صباحًا، سقطت “قلعة طائرة” (قاذفة، بعبارةٍ أخرى) ذات اللّقب البهيج Enola Gay إينولا جاي، على هيروشيما، المدينة التي يقطنها 350 ألف نسمة. قنبلة نووية باليورانيوم 235. انفجرت هذه العبوة التجريبية على ارتفاع 600 مترٍ فوق مركزِ المدينة. طيلةَ أسبوعين بعد التّفجير، اُبيدَ نصفُ سكّان المدينة (150 ألف قتيل و80 ألف جريح)، التي دُمّرت بنسبة تفوقُ 90%..
بعد ثلاثة أيّامٍ، صبيحةَ التّاسع من آب، جاءَ دور سكّان ناغازاكي، البالغ عددهم 250 ألف نسمة : ألقيَت كذلك قنبلةُ بلوتونيوم (ذات اللّقب البارع Fat Man، أي الرّجل السمين) على مركز المدينة، سقطت فعليًّا على الضواحي، متسبّبة بمقتلِ 70 ألف نسمة وإصابة عدد مماثل، وتقويض 36٪ من المباني. كشفت الحصيلة النّهائيّة والشّاملة، بعد إغلاقها في العام 1994 (بين الانفجار، والحرائق، والإشعاعات، والحروق، والآثار التي لا تحصى على الأمد البعيد) عن مصرعِ 300 ألف قتيل، من بينهم 187 ألف في هيروشيما، و102300 ضحيّة في ناغازاكي، جميعهم من المدنيّين.
لماذا ناغازاكي، التي لم تكن قد قصفت حتئذٍ؟ كشفَ مصدر يابانيّ، عن دافعٍ صفيق، كانت وراءه أمريكا، بنيّتها الطيّبة المعهودة: لم تُقصف المدينة حتئذٍ، فقط بغيةَ تقييم دقيقٍ لأثر القنبلة النوويّة القادمة (كذا)… وقعَ القصف “الذريّ” المزدوج بعد هزيمة اليابان التي كانت تحاول الدّخول في محادثاتٍ مع الولايات المتّحدة. تمّ الاستسلام بعد أسبوع، في الخامس عشر من آب 1945، ووُقّعَ في الثاني من أيلول، في طوكيو، بحضورِ الجنرال دوغلاس ماك آرثر.
ثمثّل هيروشيما الإنجازَ الأعظمَ للعمّ سام بُعيدَ مذبحة الحربِ العالميّة الثّانية. إنّها موضعُ مجزرةٍ جماعيَّةِ مجانيّة بالمطلق، أدهَشت حينئذٍ الشّعوبَ الغربيّة الثَّمِلة بالحلمِ الأمريكيّ، أسيرة الدّعاية الأميركيّة: بعد أن قَطَعت الطّريق أمامَ التّمنيّات اليابانيّة، تفادَت مجازرُ هيروشيما وناغازاكي مذبحةً أكبر… وقد استنكرَ قادةٌ عسكريّون أمريكيّون ذلك بشدّة، لاسيّما القائد الأعلى لقوّات الحلفاء في أوروبا، دوايت أيزنهاور، الذي انتُخب لاحقًا رئيسًا للولايات المتّحدة، فاضحًا الممارساتِ السريّة التي اضطلع بها “المجمع الصّناعي العسكريّ”.
لئن لم يُثر “الاختبار” المزدوج الكثيرَ من سخطِ “العالم الحرّ”، سلف “حلفِ الخير” المشؤوم، أفلا يعود ذلك إلى أنّهم كانوا يشاركون واشنطن بمحض إرادتهم غايتها الرئيسة، ألا وهيَ تخويف السّوفييت، متنبّئينَ بالانزلاقات الحربيّة القادمة للـ”الغرب الجماعي”؟ هذه النّشوة أمام “قائدنا الأعلى” ما تبخّرت يومًا، إذا استثنينا العهد الديغوليّ الذي باتَ مرجِعَ حنينٍ إلى الماضي.
في العام 2023، “العالم في حالة غليان”، ألا يشيرُ هذا الّشعار البيئيّ العصريّ الذي يرفعهُ الأمين العام للأمم المتّحدة، إلى الغليان الدّماغيّ لعقولنا العظيمة التي، دون أن تنطق بذلك، تدفع الجماهير، المهيّأة مسبقًا، لتقبّل الحربِ كمصيرٍ حتميّ؟ هل يشكّل تغيّر المناخ التهديدَ الأكبرَ، في عالم تسمّمه المنتجات الجديدة والأدوية والنفايات المشعّة وغيرها مما يُطلق دونَ اختبار؟ وماذا نقولُ عن الحروب والنّزاعات، وما خلّفت من قتلى وجرحى ومعوقين، عن الدّمار والقصف، والأسلحة الكيميائيّة، وأسلحة اليورانيوم المنضب أو المخصب، والأسلحة النووية، تارةً شرعيّة، عندما تخصّ القوى العظمى المُحسِنة إن كانت غربيّة، وتارةً إجراميّة وشيطانيّة حين تَقتنيها دولٌ غيرُ غربيّة (روسيا، الصّين، إيران، الهند، باكستان، كوريا الشّماليّة، إلخ).
أحصَت بعضُ النّفوسِ الشِّريرة، بلا ريب، منذ عام 1945، حوالى 400 عمليّة عسكريّة قام بها الغرب، لاسيّما الولايات المتّحدة، أدّت إلى عددٍ هائلٍ من الضّحايا (لا يمكن التّحقق منه، لكنّ ذلك غير مُستهجن). سنقتصر هُنا على ما يناهزُ مئةَ هجوم حرّضت عليها واشنطن وحلفاؤها في الشرق الأوسط الكبير، المستهدف بصورة خاصّة.
بلغ العددُ في العراق وحدَه، 200 ألف ضحيّة في حربِ الخليج الأولى (1991) و1,700,000 في فترة ما بين 1991/2001 (من بينهم 500 ألف طفل)، فضلاً عن مليون ضحيّة من المدنيّين خلال عشرين عاماً، بذريعة “الحرب على الإرهاب”، التي شُنّت وفقًا ل «عقيدة بوش» (منذ 2001/2002 حتّى يومنا هذا)، بحسب مجموعة الاستشراف الاستراتيجي (SFG). في أفغانستان، وصلَ العدد إلى 220 ألف قتيل. أمًا حصيلة “الرّبيع العربيّ” (من 2011 إلى 2021)، فَليست أقلّ فداحةً: حوالى مليون ونصف قتيل وجريح (أو أكثر)، بما في ذلك 450 ألف قتيل في سوريا وعدد لا يحصى من الجرحى والمعطوبين أو الشائهين نفسيًّا، منذ العام 2011 حتّى العام 2021، ناهيكَ عن 20 مليون لاجئ ونازح…
وإذا ما أخذنا في حُسباننا الحربَ في كلٍّ من السّودان واليمن و”تداعياتِ” هذه المغامرات، التي لا تزال مستمرّة خلال العام 2023 على شكل حروبٍ هجينة وعقوباتٍ وحصاراتٍ وأشكال حظرٍ وإجراءاتٍ قسريّة، تفرضُها كلٌّ من الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبيّ، أدّت عمليّات تطبيق الديمقراطيّة والتشذيب إلى مقتل ما لا يقلّ عن أربعة ملايين شخصٍ، لا بل أكثر بكثير.
ألا يندرجُ التّهديد بحربٍ نوويّة وشيكة، لاتَني تُثارُ باستخفافٍ، دون اقتراح بديلٍ عنها، ضمنَ سلسلةِ الطوارئ المتعاقبة التي تهدف على ما يبدو إلى ضمان استمرار الهيمنة الغربية المهدَّدة والمستَنكرة؟ وإلّا فكيف نفسّر الأوهام السورياليّة التي يزرعها الغرب المحتضِر، في مواجهة الأزمة الأوكرانيّة، وعلى كافّة الجبهات “المتمرّدة”، إن لم تكن خوفًا خفيًّا من المجهول الذي ينتظره بعد إرغامِه على التخلّي عن هيمنته؟
يتمتّعُ “محور الخير” فائقُ الوصفِ، منذ عشرين عاماً، بلعبةٍ أُنشأت في العام 2005، أي في زمنِ قوّته المطلَقة، ألا وهيَ المحكمة الجنائيّة الدوليّة، المنوّطة بالحكم، ليسَ على الدّول المزعِجة، بل على زعماء هذه الدّول. ولا حاجةَ لنا إلى معدّل ذكاء آينشتاين لمعرفةِ أينَ يقع مرقَد الجناة المحتملين، على ألّا نخلط بينهم وبين “المعصومين”، اللائذين بأمانٍ بواشنطن وتلّ أبيب والغرب. إذا حكمنا من خلال آخر تحريّاتهم، ألا يفتقرُ صيادو الرؤوس عندنا إلى الخيال، مقدّمين الدّليل على عيبٍ تصنيعيّ متأصّل في طبيعة هذه المحكمة الجنائيّة الدولية المطواعة؟ على الرّغم من ذلك كلّه، لا أستبعد، في هذه النقطة كما في جميع النقاط الأخرى، اقتراب لحظةِ ضرورة تغيير جهاز المِلاحة والبرمجة.
الوجهة: واشنطن وعواصم “محور الخير” الأخرى…. احترامًا لطعن جو بايدن و”دبليو” بوش في السّنّ، علينا أن نهيّئهما، وجميع أقرانهم الآخرين، قبل أن ينتقلوا بعيدًا إلى عالمٍ آخر، وينسوا مآثرهم. ليطمئنّ كلٌّ منهم، إذ سيلتقي شركاءَه في محكمة الدينونة أو التّاريخ، ولسوف يدلّهم القديس بطرس إلى مأواهم الأخير.