رسائلكممقال اليوم
العالم الآخر والموت في فكر الاغريق
العالم الآخر والموت في فكر الاغريق
هادي صبرا
على الرّغم من الإرث الأثري الكبير الذي تركته الحضارة الإغريقيّة للعالم إلّا أنّ حياة الإغريق لم تكن آمنة هادئة دون أن يكتنفها الغموض حول ماهيّة الحياة و أسرارها و المصير المحتوم في النهاية، فقد كان على الإنسان البحث عن اتجاهات و أفكار لملء الشغور الفكري الحاصل في كيانه، فكانت الميثيولوجيا الإغريقية التي استقت عناصر نسجها من الطبيعة و الممارسات اليومية الحاصلة و بالتالي حاولت تقديم صورة بدائية عن الحياة و أصل الوجود بعيداً عن الأدلة العلمية في تفسير تلك الأسرار. و كغيرها من الشعوب المجاورة كانت فكرة الموت و العالم الآخر جانباً يستحقّ التوقف عند ماهيّته و الاحتمالات التي قد يواجهها الفرد هناك. فكيف كانت النظرة إلى العالم السفلي و الروح لدى الإغريق؟
كان الموت فكرة غامضة في الميثولوجيا اليونانية بل هي الفكرة التي لا يزال يكتنفها الغموض إلى يومنا هذا على الرغم من تطور وسائل العلم و المنطق، فقد دفع الفضول بالإغريق إلى تصوّر ذلك العالم و نعته بالكئيب فلا تصله أشعة الشمس حيث تجري فيه الأنهار الكئيبة التي تملؤها صُراخات أرواح الموتى التي لا مفر لها للعودة من ذلك العالم المظلم، باستثناء ديونيسيوس الذي استطاع إعادة بعض الأرواح من تلك البقعة الكئيبة.
و لأنّ الإنسان عدو ما يجهله، وصف بعض الفلاسفة أمثال أرسطو تلك النظرة السوداوية و المتشائمة لعالم ما بعد الموت على أنّها ناتجة عن عدم قدرتنا كبشر على فهم الظاهرة و تفكيكها بشكل منطقي سليم بعيداً عن تخبطات العاطفة الفرديّة و هو ما يجعل الفرد أسيراً للتكهنات البعيدة عن التوصيف الحقيقي للواقع.
نتيجة لهذا فإنّ الأفكار حول الحياة الأخرى اختلفت تصوّراتها بين فترة تاريخيّة و أخرى و حتى بين تصوّرات الشعب من جهة و الفلاسفة من جهة أخرى في فترة زمنيّة واحدة.
كانت النظرة البدائيّة في الفترة الأولى ترى تفاوتاً بين درجة إنسان و آخر في عالم ما بعد الموت من أشخاص تجوب أخيلتهم المكان، و كذلك الأبطال الذين يتحوّلون بدورهم إلى كيانات روحيّة خارقة و آلهة، و عُرف هذا العالم ب”هاديس” الذي هو ملك هذا العالم يجلس على عرش ذهبي و إلى جانبه زوجته، و كان يقف ثاناتوس “إله الموت” بالقرب منه و قرب القضاة الثلاثة و هو يرتدي معطفاً أسود و شاهراً سيفه ليذهب إلى فراش المحتضر و يقص خصلة من شعره و يقبض روحه.
استوجبت تلك النظرة بعناصرها المذكورة دفع الأحياء للقيام بتقديم عدد من القرابين التي كانت تُسكب في حفرة فوق القبر أو بالقرب منه حتى تصل جسد الميت و كانت المسكوبات عبارة عن ماء و نبيذ و عسل و غيرها، و هذا ما جعل الأحياء على صلة بأرواح الموتى.
كان لابدّ من الدخول أكثر إلى عمق هذا العالم من خلال التصوّرات نفسها التي وصّفت ذلك العالم، فذهب الإغريقي للاعتقاد بحساب الآخرة عبر محكمة مُشكّلة من عدد من الملوك الذين كان يُشهد لهم بالاستقامة و العدل. فكان الأخيار من الأبطال و الأبرار يذهبون إلى الفردوس بأرواحهم و أجسادهم، بينما يذهب الأشرار و الآثمون إلى دار الجحيم و المعروفة ب “تارتاروس” بحيث يُكابدون هناك الجوع و العطش الشّديد. و على الرّغم من هذا التوصيف بقيت فرقة من الشّعب تعتقد بأنّ عالم ما بعد الموت يصعب التنبّؤ به لِما يحيط به من أسرار غامضة يستعصي على الفرد العادي إدراكها.
وإلى الثّواب و العقا، فهناك أيضًا فكرة رئيسيّة يجب أن نأتي على ذكرها و هي حالة القتل التي تمّ الاعتقاد بأنّ روح القتيل تأبى الدّخول إلى عالم الأموات و تبقى معادية لأسرتها قبل أن يُثأر لها، و تمّ تعريف هؤلاء المتقاعسين عن الأخذ بالثأر بالمدنّسين، فكانت تضطر الروح أحياناً أن تلبس جسداً آخر حتى تثأر لنفسها.
في فترات تاريخيّة لاحقة لم تقف التّصوّرات الأخروية و عالم الأموات عند هذا الحد فحسب، بل شهدت المعتقدات الإغريقيّة تطوّراً لِما أدخله الفلاسفة إلى تلك التصوّرات و فهم ظاهرة الموت و العالم السفلي بأفكار أكثر منطقيّة، فمع فيتاغورس بدء الاعتقاد بالخلود و عودة الرّوح إلى نقطة النور الإلهيّة الأولى التي انبثقت عنها، كان هذا الاعتقاد تأثراً بالمعتقدات الميثولوجية المصريّة و الهندوسيّة، فاعتقدت الأولى بخلود الروح، و تحدّثت الثانية عن مبدأ الكارما و تناسخ الرّوح لتتخلّص من شرورها و تُحقّق السّعادة العليا. ظلت هذه العقيدة على مستوى ضيّق من الفلاسفة بعيداً عن قناعات العامة المذكورة سابقاً.
قال سقراط يوماً إنّ الفلاسفة الحقيقيين يجعلون الموت مهنة لهم، و هو بذلك يعمل على إضعاف الشحنة الشعورية الخائفة من الموت في نفس الفرد و الانتصار عليها عبر فهمها و لو بصورة جزئية و لكن أكثر عقلية، و هو الذي تقارب مع أفلاطون في فكر فصل الجسد و الروح و البحث عن الحياة في مكان آخر لأنّ الروح في نظرهم كانت ترتقي و تعلو على الزمن على عكس الجسد الذي يتفتّـت و يتحلّل في العالم المادي.
عند الفلاسفة الطبيعيين كان الأمر مغايراً، فاعتقدوا بفناء الروح و الجسد و اعتبروا أنّ الروح -كونها عنصراً طبيعياً- تتحلّل إلى ذرات و من ثمّ تتّحد تلك الذّرّات بشكل جديد ممّا يمكنها من العودة إلى الحياة مجدّداً.
و بهذا فإنّ مقاربة فكرة الموت و العالم الآخر بعناصرهما المتعدّدة و عبور الفكرة من توصيفها بالشكل الميثيولوجي إلى الشكل الفلسفي شكّل غنًى معرفياً و فكرياً على الرّغم من التناقض الصارخ بينهما في نقاط كثيرة، و بخاصّة أنّ الميثة تعتمد على الوصف الشعري و العاطفي التي تُعرّف أسباب الوجود و تُعطي المعنى لحياة الفرد على عكس الفلسفة التي تحاول فهم الحكمة الحقيقية من الوجود عبر التّأمّل و التّفكير المنطقي بعيداً عن خلجات النفس و تمنياتها، و لكن في كلا الحالتين شكّل ذلك سلاماً و استقراراً نفسياً للإغريقي الذي تبنّى إحدى الأفكار حتى و إن كانت لا تمت للحقيقة بصلة.
من استعراضنا للنموذج الإغريقي في فهم ظاهرة الموت و العالم الآخر ببُعديه الأسطوري و الفلسفي، يظهر لنا التشابه بين أفكار عدد من الحضارات المجاورة و البعيدة في ابتكار الميثة بعناصر طبيعية و بشرية و حيوانية مختلفة و لكن ذات جوهر واحد، و هو ما ذهبت إلى شرحه العديد من العلوم بخاصة علم النفس باتجاهاته الحديثة لا سيّما ما قاله عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ في أبحاثه عن وجود لاوعي مشترك بين البشر تنبثق عنه و تتشابه فيه الميثات و الأحلام بين الأفراد.