رئيسُ لبنان كالبرّاد الصيني، يُصنّع خارجيًّا ويُجمع داخليًّا
رئيسُ لبنان كالبرّاد الصيني، يُصنّع خارجيًّا ويُجمع داخليًّا.
سامي كليب
ليس في عنوان هذه المقالة أيُّ مغالاة، فمراجَعةُ كيفيّة انتخابِ رؤساء لُبنان منذ الاستقلال حتّى اليوم، تؤكّد أنّهم جميعًا، وبدون أيّ استثناء، جلسوا على كرسيّ الرئاسة بفضلِ الخارج، وحين يضطربُ الخارج أو ينكفئ، يجدُ لُبنانُ نفسَه أمام انسدادٍ كامل، تمامًا كما يحصُل اليوم.
يروي مثلاً، الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك في مذكّراته، أنّه اختار الرئيس اللبنانيّ السابق اميل لحود لرئاسة لبنان، بالتنسيق مع الرئيس السوريّ الراحل حافظ الأسد قبل أن ينقلبَ السحرُ على الساحر، في أعقاب التمديد للحود وتفاقم الضغوط على صديق شيراك الرئيس الشهيد رفيق الحريري حتّى اغتياله.
يقول شيراك “حَرِصَ حافظ الأسد على استشارتي في كانون الأول/ديسمبر من العام 1998 بشأنِ تعيين الرئيس اللبناني المقبل. وطلب منّي أن أرسلَ إليه خمسةَ أسماء ليختارَ مِن بينها واحدًا، فوضعت بينها اسم الجنرال إميل لحود الذي كان يتمتع بسمعة طيبة وتم فرضُه في نهاية الأمر من قبل دمشق”.
الواقع أنّ هذه القصّة التي كشفَها شيراك ليست يتيمة، فالمذكّرات والمراجع العربيّة والدوليّة، تكشف الأدوارَ الخارجيّة المُختلِفة التي وقفت خلف تعيين رؤساء لُبنان في الخارج، ثم انتخابُهم صُوَريًّا في البرلمان، منذ عهد الفرنسيين والانكليز، مرورًا بدور الزعيم العربي جمال عبد الناصر، وصولاً إلى التسويات الأميركية السوريّة، وفترة الاجتياح الإسرائيلي للُبناني والذي أثمر انتخاب بشير الجميّل.
هذا مثلاً نائب رئيس مجلس النوّاب السابق إيلي الفرزلي يكشف في كتابه المقتبِس عنوانه ” أجمل التاريخ كان غدًا” من الشاعر سعيد عقل، أنَّ دمشق كانت ترى في الياس الهراوي “انحيازًا إلى بشير الجميل” لكن عند اقتراب موعد الانتخابات الرئاسيّة عام 1988، بدأ الهراوي يحاول التقرّب مجدّدًا من السوريين، فحلَّ ضيفا على برنامج تلفزيوني، تحدَّث فيه بإطراء كبير عن سوريا، وبالغ مبالغةً متماديةً في تقدير وتبّجيل دورِها في لبنان”
حمل الفرزلي المقابلة ” المطلوبة” إلى قائد القوّات السورية في لُبنان آنذاك غازي كنعان، وقدّم مطالعةً للسوريين حول سببِ عدم حماسته لانتخاب رنيه معوّض رئيسًا. لكن دمشق قبلت بمعّوض الذي أعطاها “وعودًا والتزامات بتمسّكه بوحدة لبنان وبالعلاقات اللبنانيّة السوريّة”، وذلك بالتنسيق مع السعودية التي كانت راعية لاتفاق الطائف.
يضيف الفرزلي: “كان من عادة غازي كنعان استمزاجَ رأيّي في المتفرّقات والاستحقاقات الرئاسيّة الحاسمة، فاقدّم له في كلّ مرّة، مطالعةً مكتوبة تتضمَّن تحليلاً وافيًا للظروف والنتائج، ولم تكن مطالعتي عن الياس الهراوي هي الأولى من نوعها في هذا السياق، فقد سبق أن شرحت أيضا، في مطالعة مماثلة، تعذّر انتخاب الرئيس السابق سليمان فرنجية”.
بعد اغتيال معوّض، ذهب الفرزلي لعند خصمه في البقاع الياس الهراوي وطرح عليه السؤال التالي: “ماذا تستطيع أن تفعل لميشال عون” (الذي تمرّد آنذاك على سوريا) فأجاب الهراوي:” أنزِل الى البُنكر وأمطرُه بالمدافع”. كانت هذه العبارة كافية ليعود الفرزلي مرة ثانية الى هراوي ويبلّغه بأنّه نجح في الامتحان.
أما المرشّح جان عبيد فقد فشِل في الامتحان السوريّ، وذلك حين زار دمشق وسمع السؤال التالي: “ماذا ستفعل بعون في حال انتخابك رئيسا”؟ أجاب: “سأجري حوارًا مع ميشال عون بغية جمع الجيش اللبناني وإعادة توحيده”، فقال له عبد الحليم خدّام (نائب الرئيس السوري آنذاك):” أتريد ان تحاور عميلاً للفاتيكان وفرنسا؟” فردّ جان عبيد: “أنتم حاورتم من كان عميلاً لإسرائيل” (في إشارة إلى الياس حبيقة)، فسقط في امتحان الرئاسة.
الامتحانُ السوريّ لحق أيضًا بالرئيس السابق ميشال سليمان ( الذي لفت النظر إليه خصوصًا في موقفه الحيادي يوم 7 أيار 2008 حين اجتاح حزب الله بيروت بسلاحه ردًا على قرار الحكومة قطع اتصالاته الهاتفية الارضيّة)، وكان وفدُ حزب الله وحركة أمل والمردة، هو الذي عاد من اللقاء مع الرئيس السوري بشّار الأسد حاملاً لقائد الجيش آنذاك ” بشارة” تعيينه وأبلغه بها عبر الهاتف من شتورة. (ثمّة روايات لافتة يسمعها المرء حول ذاك التعيين من سليمان فرنجيّة او الوزير السابق علي حسن الخليل حول لقاء الوفد مع ميشال سليمان بعد عودته من دمشق وكيف كاد اللقاء يتوتّر حين قال سليمان أنا الآن رئيسٌ لكلّ لُبنان وليس لطرفٍ واحد).
الأمر نفسُه حصل مع الجنرال ميشال عون في سعيه إلى الرئاسة، حيث خضع هو الأخر لحسابات خارجيّة، فرضت تسويات داخليّة، خصوصًا بعد أن كانت الخطوط قد فُتحت واسعةً بين عون ودمشق وحزب الله قُبيل عودته من منفاه الباريسي، وكان للتقارب السوري السعودي آنذاك دورٌ في دفع حُلفاء الداخل باتجاه هذا التعيين.
لا داعي لذكر كلّ تفاصيل التعيينات الخارجيّة لرؤساء لُبنان، وما أكثرها، لكنّ الانسداد الحاليّ المستمرّ منذ أكثرَ من ثمانية أشهر، يؤكّد الحقيقة المُرّة، ومفادُها أنّ ساسةَ لُبنان بحاجة دائمة إلى وصيّ خارجيّ، واذا ضاعت الفُرصة الحاليّة، وهي نادرة، للتوافق الداخليّ على انتخاب رئيس، فلن يكون مُستغرَبًا اللجوء مرّة أخرى إلى الخارج حتّى ولو كان هذا الخارج ما زالَ ضبابيَّ الهويّة والتفاهُمات، فتارة يُحكى عن تفاهمٍ سعوديّ فرنسيّ، ومرّة أخرى عن عودة صيغة سين-سين ( أي السعوديّة-سورية)، وثالثة عن انعكاس التفاهم الإيرانيّ السعوديّ…الخ.
هي “العبوديّة الطوعيّة” التي تحدّث عنها الكاتب الفرنسي إتيان دولا بويسي تحكُم ساسةَ لُبنان منذ استقلاله، مع فارق كبير في نوعيّة رجال الدولة بين الماضي والحاضر.
والخطير في الأمر حاليًّا، أنّ بعضَ التعقيد قد يحتاجُ الى بعضِ التوتير والتفجير لاستكمال شروط الصفقة، ذلك أنّ في لُبنان حاليًّا محوريَن على الأقل، أحدُهما يتحدث عن رئيس ” لا يطعن المقاومة” ويناسب استراتيجية المحور الذي تقوده إيران، وثانيهُما يُريد للرئيس أن يكون الخطوة الأبرز في صدّ ذاك المحور وضرب استراتيجيته ونزع سلاحه.
يتصارع المحوران في الداخل بينما قادتُهُما تصالحوا في الخارج، وهذه أيضًا واحدة من شروط تلك ” العبوديّة الطوعيّة”.