مقال اليوم

فرنسا والجزائر على مشارف القطيعة

حيدر حيدورة-الجزائر

في تطور خطير و مفاجئ أقدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على خطوة قد تدفع بالعلاقات الفرنسية الجزائرية إلى نقطة اللاعودة في انتظار رئيس فرنسي جديد لربما يصحّح الأمور و يهدئ التوتر الذي يتصاعد بين البلدين منذ أن قرر  ماكرون أن ينحاز إلى الموقف المغربي في قضية الصحراء  و يبتعد عن الموقف الفرنسي المحايد في هذه القضية ما دفع السلطات الجزائرية إلى اتخاذ العديد من القرارات و ‏خاصة التي لها علاقة في التبادل التجاري والتي أدت إلى تراجع حاد في الصادرات الفرنسية تجاه الجزائر مما أثر سلبا على العديد من الشركات الفرنسية التي كانت تعتمد بشكل واسع على السوق الجزائرية .
بالمقابل انفتحت السلطة الجزائرية على أيطاليا و ألمانيا وحتى إسبانيا وما الزيارات التي قام بها الرئيس تبون أو التي سيقوم بها قريبا إلا دليل على ذلك وما الحملة القوية التي يقوم بها الإعلام الفرنسي ضد هذه الزيارات إلا مؤشر على الخسارة الكبيرة التي تكبدتها الشركات الفرنسية نتيجة لهذا التوتر بين البلدين.

‏آخر ما قام به الرئيس الفرنسي ماكرون هو الرسالة السرية التي وجَّهها لرئيس الحكومة الفرنسية وطالب فيها بإتخاذ إجراءات صارمة من أجل تعليق اتفاقية إعفاء الجزائريين الحاملين جواز سفر دبلوماسي من التاشيرة والذي ردت عليه الجزائر بالمثل واعتبرته نقطة تحول حقيقية في مسار الأزمة بين البلدين. ولم يعد الخلاف عبارة عن مواقف سياسية بينهما بل تحوَّل بعد رسالة ماكرون إلى أزمة دولة مع دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى وأصبح من الصعب جدا إعادة الأمور إلى نصابها واستعادة حوار بين الدولتين من أجل البدء في نقاش جدي للوصول إلى نقطة ارتكاز للحلّ.

‏المواقف الفرنسية العاقلة والتي تدعو إلى حل جدي لهذا الخلاف صدرت عن العديد من رجال السياسة الفرنسيين ذوي الاتجاهات اليسارية و بعض اليمينيين العاقلين الذين أكدوا أن الاتجاه الاستفزازي ضد الجزائر منذ شهور أظهر بما لا يترك مجالا للشك  في أنَّ هذا الملف يوظَّف من قبل اليمين الفرنسي لتحقيق أهداف انتخابية ويدخل في إطار الصراع على الاستحقاقات السياسية الانتخابية التي تنتظر فرنسا في الأشهر والسنوات القادمة، وكذلك من أجل تحويل أنظار الفرنسيين عن الرهانات والتحديات الداخلية الحقيقية كما ذكرت الوزيرة والمرشحة السابقة للرئاسة الفرنسية سيغولين رويال، مضيفة أنَّ هذا التوظيف بلغ مستويات غير مقبولة و أصبح يُهدّد فعلا مستقبل العلاقات التاريخية بين البلدين. وهذا الموقف يلتقي أيضا مع مواقف العديد من الشخصيات السياسية الفرنسية سواء في حساب اليسار أو حتى من وزير الخارجية الاسبق الجمهوري دومينيك دوفيلبان وما يمثله من تأييد من بعض اليمين والوسط و اليسار الفرنسي.

‏تطور الأحداث والقرارات الفرنسية المختلفة يدعو إلى عدم التفاؤل بحل قريب للمشكلة بين البلدين خاصة وأن الرئيس الفرنسي أصبح جنبا إلى جنب مع وزير داخليته في التشدد ضد الجزائر ولا يبدو في افق هذه الأزمة المتصاعدة تدريجيا مخرج واحد في القريب العاجل خصوصا في ظل تصلب الموقف الفرنسي الذي يريد فقط تعاونا أكثر من الجزائر بخصوص ملف الهجرة والمصالح الفرنسية وبين الموقف الجزائري الذي يسعى إلى إعادة توازن المصالح وتغيير قواعد العلاقات المشتركة بشكل إيجابي.

والغريب في الأمر أن فرنسا تطلب من الجزائر استلام بعض الجزائريين المقيمين بشكل غير شرعي على الأراضي الفرنسية وترفض تسليم بعض المسؤولين الجزائريين السابقين المتهمين بتهريب الأموال ولديهم أملاك على الأراضي الفرنسية تم شراؤها مقابل عملات غير شرعية حصلوا عليها عندما كانوا في السلطة وفتح حسابات بنكية في البنوك الفرنسية. وتحاول فرنسا تغطية الأمر وكأنَّ شيئا لم يكن، وحتى العدالة الفرنسية لم تسمح بتسليم هؤلاء للسلطات الجزائرية، عِلمًا أنَّ مثل هذا القرار يمكن  أن يفتح فجوة إيجابية في العلاقة بين البلدين خاصةً أنَّ السلطات الفرنسية تعرف جيدًا تفاصيل كل الموضوع وتزعم أنها تحارب الرشوة والفساد وتبييض الأموال.

‏ المتابع للسياسة الفرنسية في السنوات الأخيرة وخاصة الخارجية منها يحق له أن يطرح السؤال من هو الشخص الذي يتشاور معه ماكرون قبل اتخاذ أي قرار ،وهل فعلا هناك خلية أزمة تدرس بشكل جيد كل المعطيات على الساحة الدولية قبل اتخاذ القرار .

فعلى سبيل المثال حاول ماكرون التدخل من أجل حل الأزمة في لبنان بعد انفجار ٤ آب وقبل انتخاب الرئيس جوزاف عون رئيسا للبلاد وقام بالعديد من الزيارات والتقى كافة أطراف الطبقة السياسية اللبنانية ولكنه لم ينجح ولا يتذكر اللبنانيون من زياراته إلا زيارته للفنانة العملاقة فيروز ليس حبا بها وإنما لأن ظهور فيروز نادر جدا وأي خبر يتعلق بها يلقى اهتمام محبيها، وحاول التدخل بالأزمة الاوكرانية ولكنه لم ينجح وأيضا خسر في السنوات الاخيرة العديد من المواقع في إفريقيا لصالح روسيا وسارت مظاهرات في العديد من المدن الإفريقية تطالب بخروج القوات الفرنسية من اراضيها وحتى الموقف من القضية الفلسطينية والذي أعلن أنه سيعترف بالدولة الفلسطينية خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يأت إلا بعد مجازر بشعه تقترفها القوات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني واعتراف العديد من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية وضغط الشارع الفرنسي المؤيد للشعب الفلسطيني والمندد بالمجازر الصهيونية.

‏إن السياسة الفرنسية العاقلة غابت منذ أن غاب الرؤساء الكبار واخرهم جاك شيراك الذي وقف ضد تدخل أمريكي في العراق وأبعد الضابط الإسرائيلي في القدس من أجل الإقتراب من الجماهير الفلسطينية المقدسية المرحّبة به بينما نرى الآن أن فرنسا وحتى أغلبية أوروبا غير بعيدة عن السياسة الأمريكية  ولا يمكن لها أن تكون مستقلة نظرا للمشاكل الاقتصادية التي تعرفها القارة العجوز ، وهي تتلقى ضربات من الصين وروسيا وأمريكا وحتى الدول الأوروبية التي طالبتها السلطات الفرنسية بإجراءات مماثلة ضد الجزائر رفضت السير في هذا الاتجاه ورفضت المحاولات الفرنسية لتشويه صورة الجزائر عبر تصنيفها كدولة راعية للإرهاب أو تبييض الأموال و ما نتائج زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى كل من إيطاليا و الفاتيكان و دعوة الرئيس الالماني لزيارة برلين والتقارب الإسباني الجزائري إلا دليل على خسارة فرنسا لهذه المعركة ضد الجزائر.

‏في نهاية الأمر وبالعودة للعلاقات الفرنسية الجزائرية يمكن التأكيد أنها قسمت الفرنسيين ووحدت الجزائريين وعلينا الانتظار حتى تاريخ انتخابات رئاسية فرنسية ووصول رئيس فرنسي جديد يمكن أن يرسم ملامح جديدة لهذه العلاقة سلبا أم إيجابا لأنه في الظروف والأوضاع والقرارات الفرنسية والجزائرية المضادة لا نرى افقاً لأي حل إلا معجزة ما تعيد فتح ثغرة يدخل من خلالها أصحاب العقول النيرة و المنفتحة عند الطرفين للبحث في بداية حل لهذا المشكل الذي يكبر مثل كرة الثلج مع الأيام والخاسر الأكبر هي فرنسا. ولكن هذا لا يعني أن الجزائر والجزائريين ليسوا خاسرين من تدهور العلاقات خاصة إذا عرفنا أنه هناك ٥ مليون شخص من أصول جزائرية يعيشون على الأراضي الفرنسية يمكن أن يتأثروا من توتر العلاقات بين البلدين و يمكن أن يكون لهم دورهم سواء في السياسة أو الاقتصاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى