افتتاحية

   تسعير الجبهات والثمن الاسرائيلي في الجنوب السوري

   تسعير الجبهات والثمن الاسرائيلي في الجنوب السوري

 سامي كليب:

يُغالي الطرفان في توصيف واقعِ ومستقبلِ لغة الصواريخ التي اندلعت فجأة بين إسرائيل من جهة ولُبنان وسورية من جهة ثانية. فالمحور الذي تقوده إيران يؤكّد أنَّ إسرائيل باتت أعجز من أن تشنّ حربًا لأنَّ في ذلك نهايتها الحتميّة، وقادة إسرائيل يستمرّون في غرورِهم التقليديّ مؤكّدين أنّ جيشَهم ما زال الأقدر على حسم المعركة وأنّ ضبط النفس لا يعني ضُعفًا، لا بل يتباهون بقدرتهم على إزالة إيران من الوجود لو استخدمت سلاحًا نوويًّا.

وأمّا في لُبنان، فينقسم الناس، وعلى جري عادتهم منذ فجر الاستقلال، بين رافضٍ استخدام لُبنان منصّة لإطلاق الصواريخ مُتناسيًا عمدًا أو انطلاقًا من أيديولوجيا ثابتة، أن إسرائيل هي أسوأ وآخر نظام عنصري في التاريخ الحديث، وأنّها تسحق عظامَ شعبٍ يُريد فقط أن يعيش بكرامة على أرضه، وانّها انتهكت لُبنان آلاف المرّات، وبين مُهلّل لهذه الصواريخ، متناسيًا عمدًا أيضًا أنّ لُبنان دفع تاريخيًّا ثمنًا باهظًا حين انفلتَ السلاحُ من عقاله، وحين كادت المنظّمات الفلسطينية الموزّعة على المحاور الاقليميّة، تتحوّل الى دولةٍ داخل الدولة، بدعمٍ كبير من الحركة الوطنيّة، ومالٍ وفير من دولٍ استخدمتها كما استخدمت الكثير من اللُبنانيّين مطايا وبيادق لمشاريع أخرى لا علاقة لها بالصراع العربي الإسرائيلي. وحين اجتاحت إسرائيل لُبنان، ظهرت الخيانات في أكثر من مكان، ووصل العدو الإسرائيلي الى قلب بيروت.

كانت إسرائيل وما زالت وستبقى دولة احتلال، وهي التي نسفت كل محاولات السلام، من مدريد وأوسلو وواي بلانتايشن، الى القمة العربيّة في بيروت. وهي التي ضاعفت المستعمرات أكثر من 700 مرّة منذ أوسلو، وهي التي تهوّد البشر والشجر والتاريخ والجغرافيا، وهي التي تمنع المسلمين من الصلاة في مسجدهم، وهي التي لم تُبقِ من المسيحيين في أرض رسول السلام السيد المسيح سوى 2 بالمئة في القدس (أي نحو 4 آلاف مسيحي) مقابل 25 بالمئة عام 1948. (يمكن مراجعة كتاب التصفية العرقية في فلسطين للكاتب ايلان بابيه، أو كتاب إسرائيل-فلسطين للكاتب آلان غريش، او كتاب جان بيار فيليو ،إسرائيل-نتنياهو نهاية الحلم الصهيوني، او كتب شارل انديرلان، فكلّها تشرح ماذا حصل من تصفية منذ العام 1948 حتّى اليوم).

لن تفهم إسرائيل بسبب ايديولوجيتها التي تزداد تطرّفًا وتديّنًا، أن الشعب الفلسطينيّ لن يكلّ ولن يملّ، وأنّ كلّ جيلٍ فيه سيكون أكثر صلابةً ووعيًا من الجيل الذي سبق، وانّه بلا دولة فلسطينية غير مقطّعة الأوصال، وحرّة، ومستقلّة ولها مطاراتها ومرافئها، لن يكون سلامٌ ولن تستقر اسرائيل، مهما طال الزمن.

لكن بالمقابل يحقّ للُبناني المقهور والفقير والمدمّر، تمامًا كما يحقّ للسوري المقهور والفقير والمدمّر، أن يسألا عن توقيت ومآلات التدهور الأمني الحالي وتبادل القصف عبر الحدود.

وهنا تبرز الاحتمالات والمبرّرات التالية:

  • يقول أهل المحور الذي تقوده إيران، إنّ الماضي مضى، وانّ على إسرائيل أن تفهم اليوم، أن ثمّة توحيدًا للجبهات، يمتد من داخل فلسطين حتى إيران مرورًا بلبنان، وسوريا، والعراق، واليمن. وانّ أيّ أذى يلحق بأحد الأطراف سيُردّ عليه بحزمٍ. هذا يعني أن تفعيل لغة الصواريخ التي تزامنت مع التهاب الوضع الفلسطينيّ الداخلي على أكثر من جبهة في فلسطين، جاء في سياق الردّ على تكثيف إسرائيل عدوانها على الأراضي السورية مستهدفة قوات ايرانية ثم الجيش السوري، وجاء أيضًا نُصرةً للفلسطينيّين في الداخل.
  • بالمقابل يقول قادة إسرائيل ومناصروها، إنّ وضعَهم الداخليّ المضطرب (بسبب محاولات نتنياهو السيطرة على القضاء، وأيضًا بسبب تنامي ضغوط الأحزاب الدينيّة والمتطرّفة)، لن يؤثر على قدرتهم على ضرب أعدائهم حيثما أرادوا، وإنّهم يستهدفون صواريخ إيران في سوريا، العابرة الحدود صوب لُبنان، أو مصانع صواريخها في سوريا.

التبريران قابلان للنقاش، لكن لو ابتعدنا قليلاً عن صخبِ الجبهات حاليًّا، نستنتج التالي:

  • اولاً، أنّ تسعير هذه الجبهات جاء بعد حدثَين سياسيّين كبيرين: الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية الصين، والانفتاح العربي المتسارع على سورية والذي يشي بنهاية قريبة للحرب السوريّة خصوصًا إذا ما تُوِّجت التفاهمات الاقليميّة بمصالحة بين سوريا وتركيَّا.

 

إسرائيل تُريد ثمنًا جنوب سوريا

هذا يعني أن إسرائيل تُريد ثمنًا في الجبهة الجنوبيّة لسوريا، ذلك أنّ انتهاء الحرب السوريّة مع بقاء إيران وحزب الله عند حدودها من جانبَي الجولان والجنوب اللبنانيّ، أمرٌ بالغ الخطورة عليها، ولذلك ففي تصعيدِها رغبةٌ ليس بالحرب الواسعة، وإنّما بمحاولةِ فرضِ تفاهماتٍ حول المنطقة الجنوبيّة التي كانت روسيا في خلال السنوات الماضية قد تولّت أمرها، وقدّمت ضماناتٍ كثيرة لإسرائيل بإبعاد إيران والحزب عنها. ( هل سقطت هذه الضمانات بسبب استياء فلاديمير بوتين من انحياز إسرائيل لأوكرانيا؟)

  • ثانيًا، أنّ هذه الرغبة الإسرائيلية تتفق مع رغباتِ بعض العرب، لجهة ضرورة خروج إيران وحزب الله من سوريا كشرطٍ أساسي للانخراط في ورشة إعادة الاعمار ووضع حدٍ للحرب، وعودة سوريا، بلا تنازلات سياسيّة، الى جامعة الدول العربيّة.
  • ثالثًا، أنّ التصعيد الإسرائيلي المضبوط حتّى الان بخطوط حُمر، ينسجم مع الرغبة الأميركيّة بعدمِ تعديل الوضع العسكري في الجنوب السوري ولكن أيضا في مناطق سيطرة الكُرد (قسد) حيث توجد الثروات الزراعية والنفطيّة، خصوصًا بعدما ذهب عددٌ من التحليلات الى القول بأنّ روسيا قد تُعطي ضوءًا أخضر لإيران والحزب والجيش السوري للبدء بشنّ هجماتٍ على القواعد الاميركيّة في سوريا لإخراجها بالقوة، وفتح جبهةٍ جديدة ضد واشنطن بعيدًا عن أوكرانيا.

لا مصلحة لأحد بالانزلاق الى الحرب

لا توجد مصلحة لايّ طرفٍ حتّى الآن في الانزلاق صوب حربٍ واسعة، فمن جهة إيران من الصعب أن يتخيّل المرء انخراط الحرس الثوري بحرب مباشرة مع إسرائيل في الوقت الراهن، بعدما عزّزت القيادة الايرانيّة تحالفها الاستراتيجي مع الصين (ذات العلاقة القوية أيضا مع إسرائيل) وروسيا، وبعدما فتحت صفحةً جديدة مع السعوديّة والامارات العربيّة (الراغبتين بخروج القوات الإيراني والحزب من سوريا)، وخفّفت بذلك الضغوط الداخليّة التي أحدثتها التظاهرات المناهضة للسُلطة منذ شهور طويلة.

ومن جهة إسرائيل، من الصعب التفكير بمغامرة عسكريّة واسعة حاليًّا بلا دعمٍ داخليّ من جهة، وبلا غطاء أطلسيّ من جهة ثانية نظرًا لانشغال الحلف الغربيّ بالحرب الأوكرانية وبالإعداد رُبما لحربٍ أخرى مع الصين في تايوان. ثم إنّ إسرائيل اليوم ما عادت قادرة على توقّع مآلات حربٍ تُدرك مُسبقًا أنّها قد تكون تدميريّة من جانبي الحدود.

الأرجح إذًا عدم تطوّر الأمور في الخارج أكثر، مقابل استمرار هبّة الشعب الفلسطيني على نحو أوسع.  والمُرجّح أيضًا أن تستمر استراتيجية ” المعارك بين الحروب” لفترة غير قصيرة.

هل هذا يعني أن الحروب بالوكالة بين إيران وإسرائيل ستبقى منضبطة في أطار الفعل ورد الفعل داخل الخطوط الحُمر؟ الكاتب الفرنسي أورين شوفيل يؤكد في كتابه ” حربُ الظلال بين إسرائيل وإيران”، أن الجيش الإسرائيلي يستعد منذ سنوات لحرب ضد حزب الله أو لحرب شاملة ضد كل المحور، وأنّه صحّح الكثيرَ من أخطاء حرب 2006 لجهة المعلومات الاستخباريّة، والتواصل بين الجيوش الإسرائيلية، وكذلك لجهةِ عمليات اجلاء سكان المناطق الشمالية، وأنّه عاجلاً أم آجلاً سيجد أن الحرب، رغم كلّ كوارثها، ستكون أقل كلفة من ترك إيران تجنّد آلاف المقاتلين الشيعة والسُنّة عند حدودها مع سوريا ولُبنان، أو تركها تُنتج قنبلة نووّية.

قال ذلك قبل أن يدخل الى ميدان الحرب، سلاحٌ جديد وخطير، هي المسيّرات، التي اضافتها إيران الى صواريخها، في محاولة لسد النقص في سلاح الجو الذي ما زالت إسرائيل متفوّقة فيه بقوة.

انطلاقًا ممّا تقدّم، يبدو أنّ المنطقة، تستعيد أجواء سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، من تحريك الحدود، وأفعالٍ وردود أفعال، واغتيالات واختراقات عسكرية أو سيبرانيّة، أمّا الحرب الواسعة فهي مستبعدة الاّ اذا انزلقت الأمور بالصدفة نحوها، واخترق أحد الأطراف الخطوط الحمر، وهي الخطوط التي قال الكاتب الفرنسي إنها قد تكون عبر اغتيال شخصيّة كبيرة مؤثرة أو عبر حصول الحزب على سلاح خطير بكمية كبيرة، او تصنيع إيران قنبلة نوويّة.

لذلك يُمكن القول إنّ الطرفين يُغاليان بتوصيف الواقع والمستقبل، لانّ أيّ حربٍ واسعة تحتاج الى قراراتٍ إقليمية ودوليّة كُبرى، وأنّ لا مصلحة لأحد في الوقت الراهن بها نظرًا لكوارثيتها الحتميّة. وأمّا الحتمّي، فهو استمرار الحرب بالوكالة بين إيران وإسرائيل، حتّى لو تفاقمت الاختراقات داخل أراضيهما، امّا لو تأكّدت إسرائيل من أن طهران ستُنتج قنبلة نوويّة، فحينها فقط قد ينقلب المشهد، بحيث تقبل اسرئيل بالأمر الواقع، أو تُغامر بحرب واسعة لا يعرف غير الله كيف تنتهي.

ويبقى حاليًّا السؤال : هل تسعير الوضع عند الجبهتين الجنوبيّة لسورية ولبنان، سيُساهم في تصعيد الوضع العسكري، أم يُسرّع خطوات اعلان إيران والحزب نهاية مهمّتهما في الأراضي السورية لصالح انخراط العرب بإعادة الاعمار والانفراج الاقتصادي الذي طال انتظارُه؟ لننتظر ونرَ، فالاتفاق السعودي-الإيراني سيشمل الكثير من الملفّات وفي مقدّمها حتمًا اليمن وسورية. من يدري، لعلّ الصين ستدخل وسيطًا هذه المرّة بين اسرائيل وايران وسوريا ولبنان، تمامًا كما فعلت بين ايران والسعوديّة.   

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button