“اتفاق الحرير” من بكين إلى بنشعي؟
سامي كليب:
في كتابِها الحامل عنوان :” العلاقات السعوديّة-الإيرانيّة منذ بدايات القرن العشرين حتّى اليوم” تقول الباحثة الإيرانيّة في الشؤون الخارجية الأميركية والاستاذة في مركز الملك فيصل للدراسات والأبحاث الإسلامية في السعوديّة، بَنَفشِه كي نوش: ” إنّ معاونَ وزير الخارجيّة الإيراني للشؤون العربية والافريقيّة حسين أمير عبد اللهيان ( وزير الخارجية الحاليّ) أكّد لي أنّ هناك سِمَةً ثابتة في العلاقات بين السعودية وإيران، هي أنّها ( أيّ العلاقات) عندما تبدو في أسوأ أحوالها، فإنّ المخاوف الأمنية المتصاعدة للرياض وطهران غالبًا ما تدفعهما إلى إعادة الشراكة بينهما”.
هذه المرّة ليست المخاوف الأمنيّة هي التّي أعطت الدفع للاتفاق، بل تحوّلات استراتيجيّة ومفصليّة أعمق، بدأت منذ سنوات في السعوديّة مع تقدّم الأمير محمد بن سلمان صوب العرش من جهة، وانتقال الصين من مستوى الحذر الاستراتيجيّ، إلى الإِقدام بخطواتٍ متسارعة لا متسرّعة نحو تنفيذ خطّتها الاستراتيجيّة الكُبرى ” الحزام والطريق”، وهذا ما ينسجمُ تمامًا مع القناعة الإيرانيّة بضرورة فتح صفحةٍ جديدة وحقيقيّة مع جارتها العربيّة، وتعزيز الانطلاق نحو أفقِ الشرق الآسيوي الواسع بشراكةٍ مفصليّة، فتخفّف الضغط الغربيّ عليها من جهة، وتُنعش اقتصادَها من جهة ثانيّة وترسّخ شراكتَها الاستراتيجيّة مع بكين.
ليس ” أتفاق الحرير” بين السعوديّة وإيران، بدايةَ طريق، بل سبقته أولاً خمسُ جولاتٍ تفاوضيّة بوساطة العراق او سلطنة عُمان، وسبقه ثانيًّا فشلُ الاتفاق النووي وانتفاضةٌ شعبيّة في إيران، وسبقه ثالثًا وخصوصًا قرارُ وليّ العهد السعوديّ مواجهةَ الغطرسةِ الأميركيّة بتوسيع قاعدة الشراكة مع الصين، ليس للتخلّي عن العلاقة مع واشنطن، بل لترويض غرورِها ولتنويع العلاقات الخارجيّة بما يخدم السعودية ورؤية 2030. وسبقته رابعًا شراكاتٌ استراتيجيّة عقدتها بكين مع السعوديّة وإيران انطلاقًا من عامي 1999 و2000 على التوالي. وسبقته خامسًا الحرب الأوكرانية التي شكّلت باروميتر اختباري لمستقبل المواجهة بين الصين والغرب الأطلسي وما تستتبعه من اصطفافات اقليميّة ودوليّة.
اتفاقٌ أكبر من مصالحة
كلّ ما تقدم يجعل ” اتفاق الحرير” أكبر من مجرّد مُصالحة وفتح سفارتين، وأهمّ من طيّ صفحة خلافاتٍ وصراعاتٍ، وأعمق من شعار ” عدم التدخّل”. إنّه يضعُ (لو ترسّخ ونجح بعد فترة الشهرين)، اللَبِنةَ الأهم إقليميًّا وآسيويًّا، في سياق ترسيخ عالمٍ متعدّد الأقطاب، والتأسيس لتحالفاتٍ تخرُج من معهود ما عرفته المنطقة منذ نحو مئة عام.
الواقع أنّ الشرق الأوسط بالنسبة للجيل الرابع من القادة الصينيّين بدأ يكتسب أهميّةً خاصّة منذ العقد الأخير من القرن الماضي، وقد سعت بكين للمواءمة مذّاك بين رغبتها بالتقدّم صوب مناطق الثروة النفطيّة التي تحتاجُها لثورتها الصناعيّة، وسعيها لتوسيع نشاطها الدبلوماسيّ بغية ترسيخِ دورٍ عالميّ محوريّ، وبين عدم رغبتها بإثارة الغرب الأطلسي. لذلك رأيناها مثلاً تصوّت تاريخيًّا على كلّ قراراتِ فرضِ عقوباتٍ على إيران في الملف النووي، وعلى قرارات إدانةِ الاجتياح العراقي للكويت، ولكن أيضًا على كلّ القرارات الرافضة اسقاط الأنظمة بالقوة والمتعلّقة بإيران أو سوريا وغيرهما.
للصين حاجاتٌ مُلحّة في الخليج، فالسعوديّة وإيران أساسيتان في مشروع ” الحزام والطريق” الذي يمرّ بهما، وفي تأمين النفط الذي تحتاجه صناعاتُها الهائلة، وفي توفير أسواق للبضائع الصينيّة، وفي ضبط الانتفاضات الاسلاميّة التي ينحو بعضُها صوب التطرف والإرهاب.
يقول الكاتب حكمات العبد الرحمن المتخصّص في تاريخ الشرق الأقصى الحديث، في كتابه:” الصين والشرق الأوسط”:” تعملُ الصين جاهدة للحصول على دعمٍ في ما يتعلّق بإقليم تركستان الشرقيّة، ولا سيّما من الدول الإسلاميّة في الشرق الأوسط كالمملكة العربيّة السعوديّة والجمهوريّة التركيّة المرتبطتين روحيًّا ودينيًّا بالإقليم المُسلم “.
التفاؤل الحذر
قد يكون التفاؤل بطيّ الصفحة، بل الصفحات، سريعًا بين إيران والسعوديّة، سابقًا لأوانه نظرًا لتجارب المُصالحات السابقة، لكن حاجة الأطراف الثلاثة، أيّ الصين والسعوديّة وإيران اليوم، للتعاون والانتقال إلى مرحلةٍ مُتقدّمة على “طريق الحرير”، يدفع صوبَ الأمل بأن تنجح الصين في إزالة الكثير من الألغام، وذلك نظرًا لعلاقاتها الجيّدة مع معظم الأطراف من طهران والخليج حتّى سوريا وإسرائيل، واعتمادًا على سياستها القائمة على مبدأ عدم التدخّل، وعدم اسقاط الأنظمة بالقوّة، وحلّ القضايا بالطرق السلميّة.
جرّبت واشنطن “كلّ شيء ضد إيران” يقول الكاتب الأميركي ريز إيرليخ في كتابه المُهم:” أجندة إيران اليوم”، مُضيفًا:” لقد تسبّبت الإدارات الجمهوريّة والديمقراطيّة المتتاليّة بفوضى في العلاقات الأميركيّة-الإيرانيّة منذ العام 1979. فهي جرّبت الحظر الاقتصادي، والقرارات الدوليّة، والحملات الدعائيّة، والاعتداءات الارهابيّة السريّة، واعتقال دبلوماسيّين إيرانيّين مقيمين في العراق، وتهديدات عسكريّة كادت تُشعل الحرب ضدّها فعليّا، لكنّ كلّ ذلك لم يؤدِ إلى تغييرٍ ملحوظ داخل إيران”.
كذلك جرّبت الإدارات الاميركيّة كلّ شيء لمنع السعوديّة من توسيع تحالفاتها مع الشرق الآسيويّ، ولإبقاء القرار السعودي السياسيّ والنفطيّ منسجمًا مع المصالح الأميركيّة، حتّى لو ناقض المصالح السعوديّة، ولدفع الرياض للتطبيع العلنيّ مع إسرائيل، لكنّ كلّ ذلك فشل، ونجح الأمير محمّد بن سلمان في فرضِ نفسِه، مُستندًا الى شعبيّة داخليّة واضحة من قِبَل الشباب السعودي الذي يُمثّل أكثر من 70 بالمئة من الشعب.
ربما حان الوقت، لكي تجرّب السعوديّة وإيران مع الصين ما يُناسب مصالحهما قبل أيّ مصالح أخرى. فالبلدان يتشاركان بمصالح كثيرة وبينها مثلا ثلاثة حقول نفطية على الأقل لكلّ منها اسمان فارسيّ وعربيّ ( اسنفديار/ اللؤلؤة، وفروزان/مرجان، وفرزاد/الحصبة)… ربما لو نجحتا في ذلك مع الصين ودولٍ أخرى، سيُساهمان فعلاً في إرساء نظام عالميّ جديد وتعدّدي، بدلاً من أن يكونا حقلَ تجاربٍ لسياساتٍ تتناقض وتتقاتل على أرض المنطقة.
مؤخّرًا أعلنت مصلحة الجمارك الإيرانيّة، ارتفاعَ حجم التبادل التجاري مع السعودية ليصلَ إلى نحوَ خمسة عشر مليون دولار خلال عشرة أشهر، لكن لو سارت الأمور على نحوها الجيد، فهذا الرقم سيقفزُ سريعًا الى مليارات الدولارات، كما هي الحال مع الإمارات التي وصل تبادُلها مع طهران الى نحو 22 مليار دولار بالرغم من الحظر الأميركي. فالمصالح بين الدول غالبًا ما تقفز فوق أيّ اعتبار آخر، والاّ كيف نُفسّر أن التبادل ارتفع بأكثر من 20 بالمئة بين الإمارات وإيران بعد التطبيع الإماراتي مع إسرائيل.
ما المُنتظر؟
ستتكثّف الخطوات الدبلوماسيّة بين إيران والسعوديّة، وسوف ترتاح حتمًا جبهات وأزمات عديدة، لكن الحذر سيبقى حاضرًا لفترةٍ غير قصيرة، وكلّ طرفٍ سيستمر بلعب كلّ الأوراق التي يملكُها لتحسين شروط التفاوض، ولذلك قد يكون من المبالغة القول بأنّ ما حصلَ في بكين مثلاً، يعني حتمًا حلّ كلّ قضايا لُبنان دُفعة واحدة والاتفاق على رئاسة الجمهورية والوصول الى بنشعي (حيث المُرشح العتيد سليمان فرنجيّة)، ووضع حل سياسي شامل للحرب اليمنيّة، واستعادة كامل العلاقات العربيّة مع سورية. ففي التفاوض قد يَسهُل حلّ ملفات، وقد يشتدّ تعقيدًا خصوصًا أنّ أطرافًا أخرى ستسعى للتخريب وفي مقدّمها إسرائيل وبعض اللوبيات الأميركية، وربما بعض الدول العربيّة نفسها.
نحن أمامَ لحظةٍ تاريخيّة مفصليّة في المنطقة والعالم. كلّ الأنظار مشدودة إليها. لحظةُ الانتقال بطريق الحرير من التخطيط إلى التنفيذ. وهي طريقٌ يقول عنها أحد أبرز منظّريها البروفسور وانغ ييوي في كتابه ” الصين تربط العالم”:” ستُسرّع تطبيق استراتيجيّة منطقة حُرّة قائمة على الدول المجاورة (وبينها حتمًا السعوديّة وإيران)، وستحقّق التدفّق الحر للسلع، وستجلب رأس المال والقوى العاملة، وستسرّع تنفيذ اتفاقية التجارة الحرّة ومفاوضات الاستثمار مع الدول الرئيسة على طول الطريق، وتركّز على وضع قواعد دوليّة جديدة”.
لُبنان قد يكون مُلحوظًا في هذه الاستراتيجيّة، لكنّ ما حصل في بكين، هو أبعد بكثير عما يدور في ” بنشعي” وحولها بالرغم من حديث متطور عن تدخّل روسي مع السعودية لصالح المُرشّح غير المُعلن بعد سليمان فرنجيّة. فمَن لا ينظُر إلى الاتفاق من زاوية التوازن العالميّ، وتعدّد الأقطاب، لم ير منه غيرَ القشور.