على الخشبة ملوك الجِنّ
على الخشبة ملوك الجِنّ
هناء صالح
يؤمن المسلمون على اختلاف طوائفهم بوجود مخلوقات غير مرئية وتختلف بتكوينها عن طبيعة تكوين البشر. ولقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم في مواضع عدة وسميت سورة باسمهم وهي سورة الجن. اما الكنيسة، فهي لا تعترف بوجود الجن. فلا وجود لهذه المخلوقات في جوهر الايمان المسيحي كما أكد لنا الاب نقولا سميرة كاهن رعية كنيسة سيدة النياح الأرثوذوكسية.
عاصي ومنصور، وعلى الرغم من انتمائهما الى الكنيسة الأرثوذوكسية كان لهما صولات وجولات مع عالم الجان وتفردا عن كل من اهتم بالمسرح الغنائي بتوظيفهم على الخشبة في أكثر من عمل مسرحي. ومنعا للإطالة، سوف يقتصر بحثنا على واحد من هذه الاعمال.
جسر القمر، مسرحية عرضت في العام 1962 وكان الجن من أبرز شخصياتها. تدور الاحداث في مجتمع زراعي.” جسر القمر”، قرية غنية بينابيع المياه. ضيعة “القاطع” تعتمد على مياه جسر القمر لري مزروعاتها لافتقارها الى الموارد المائية. وقع الجفاء والعداء بين القريتين الجارتين، فمنعت جسر القمر مياهها من الوصول الى ضيعة القاطع. فجفت الحقول ويبس الزرع. وعندما كبر الخلاف واتسعت الهوة بين القريتين، أوشك النزاع ان يغدو مسلحا لولا تدخل صبية جسر القمر.
فيروز، الصبية المسحورة والمرصودة على الجسر، نادت شيخ المشايخ “نصري شمس الدين” ليخلصها من الرصد الذي جعلها سجينة الجسر ولم يعد بإمكانها العيش كغيرها، فرجته قائلة: ” حابة ارجع عيش متل الناس، عالدني أتطلع واحلم بالأعراس، مسحورة انا يا شيخ المشايخ، خلصني يا شيخ المشايخ”.
هكذا كانت البداية. وان كانت الاحداث تنتظم في المسرحية كحبات سبحة فان اول حبة فيها هي تلك التي كانت مدخلا الى السحر والماورائيات.
وبحسب العارفين، يمكن اللجوء لعدة طرق روحانية لفك السحر والرصد. وهكذا كان: دعا شيخ المشايخ أهالي جسر القمر لحضور جلسة “ضرب مندل” لكشف سر الصبية المسحورة والرابطة على الجسر. وحين سأل أحدهم: ” شو بيعمل المندل؟ ” كان الرد: منجيب كباية ومنعرف الحكاية.”. أذن الامر لم يكن مجهولا عند الاخوين عاصي ومنصور والأرجح انه كان مشاهدا ومجربا، فالمندل أساسه ” كوب من الماء يقرأ عليه تلاوات وعزائم خاصة”. ثم يبدأ الشخص القائم على المندل باستحضار الجن وسؤالهم عن الامر المراد معرفته.
في المسرحية يستدعي ضارب المندل “ميمون”: يا ميمون، وسع، وسع، احضر”. لم يخف على عاصي ومنصور أن ميمون في عالم الجان هو من كبار ملوكهم.
بيد ان الامر يبدو لنا محيرا؛ هل يضع عاصي ومنصور نفسيهما في خانة التصديق بوجود الجن والايمان بقدراتهم ام ان ذكرهم مستوحى من القصص الشعبي الذي كان يسلي جلسات السهر والسمر؟
عند استدعاء ميمون قال ضارب المندل، ” يا ميمون، اعمل ساحة وهم، عيشنا بالحلم”. فيلتبس علينا الامر. فعاصي ومنصور على دراية واطلاع على هذا العالم الخفي. ولكن هل هذا الاطلاع يدخل في خانة المعرفة المقرونة بالإيمان واليقين ام هو حالة من تصديق الوهم؟
لم يتوقف الامر عند هذا الحد في مسرحية جسر القمر. قرر شيخ المشايخ ان يسهر قرب الجسر بعد ان اخبرتهم الصبية بأمر الكنز المرصود وحراسه ملوك الجان.
الشيخ: “بتكون النطرة أرهج انا وسهران
لو بيصرلي اتفرج ع ملوك الجان”
وكان له ما أراد. حضر ملوك الجان بمجرد ذكره لهم.
الجان:” اهلا وسهلا يا زايرنا يا شيخ المشايخ
الشيخ: اهلا وسهلا انتو مين
الجان: نحنا ملوك الجان”.
استقبلهم شيخ المشايخ بفرح كبير قائلا: “من صغرتنا بنسمع فيكن، شو كنا نحب نلاقيكن.” ثم نادى على ملوكهم بأسمائهم المتعارف عليها: الملك الأحمر والملك الأصفر والملك الأزرق. ومن ثم دار بينهم وبين الشيخ حوارا وديا امتزجت فيه الخرافة مع الادب الشعبي وقصصه. طلب الشيخ من الجن معرفة مكان الكنز فكان جوابهم: “تحت الجسر تركناه…بكرا مناخدلك ياه”.
علما انه في نهاية المسرحية اتضح ان الكنز ليس شيئا ماديا وانما هو الصلح والتعاون والاخوة بين القريتين. إذا الجن يكذب وهو يدعي المعرفة بالأمور الغيبية. ثم طلب شيخ المشايخ من ملوك الجان عدم الظهور في احلام الأطفال وعدم التواجد في أحياء القرية والأماكن التي تكثر فيها المياه لتجنب اخافتهم. فكان ردهم عليه بمثابة صك براءة فأزاحوا عن كاهلهم تهمة التصقت بهم منذ آلاف السنين:
” يا حسرتي علينا ما منأذي حدا
ولا منخوف حدا ولا يوم تعدينا عاجنينة حدا
يا حسرتي علينا نحنا موجودين او مش موجودين
النا عمر منسأل ومناش عارفين …
نحنا بس حكايات
بيحكوها بالسهرات … “
بين التصديق والاعتراف بوجود الجن وعدمه، هناك حد فاصل يقف عليه عاصي ومنصور. فنراهما في بعض الاعمال يلجآن في طلب الحلول لمشاكل شخصياتهم من الجن، فنتفاجأ بأن هذا العالم الغير مرئي عاجز عن إيجاد أي حل، فكيف للوهم ان يلامس الحقيقة لإيجاد الحلول؟
كما قلنا في بداية هذا البحث بان للجن حضور بارز في عدد من الاعمال المسرحية، وان لعاصي ومنصور علم ودراية في خفايا هذا العالم، الا انهما تناولاه بطريقة ساخرة حينا واظهراه عاجزا حينا أخر. لا نعرف مدى ايمان عاصي و منصور بهذا العالم, و لكن الأرجح بان ذكرهم في أعمالهم المسرحية عائد للقصص و الادب الشعبي.