المسيحيّ اللُبنانيّ قلقٌ، احذروا الآتي
المسيحيّ اللُبنانيّ قلقٌ، احذروا الآتي.
سامي كليب:
كلُّ مطلبٍ في لُبنان يواجَهُ بتُهمةِ المؤامرة. وحين تُصبحُ تُهمةُ التآمرِ جاهزةً، يُغالي المُتَهِم في توصيفِ وطنيّتِه، ويرتفع منسوبُ القلقِ عند المُتّهَم، فيتعرّض الوطنُ للاهتزاز، وتُشرّع أبوابُه أكثر لكلّ مُحتلٍّ وغازٍ وطامع وطامح، من العدو والشقيق. لم يتعلّم ساسةُ هذا البلد شيئًا من التاريخ، ولا أفادوا من الدروس المتكرّرة كلّ عقدٍ تقريبًا.
يحقُّ للمسيحيّ في هذا الشرق بشكلٍ عام أن يقلق، وأن يُعبّرَ عن هذا القلق بأفكارٍ مُختلفة، ويحقّ للمسيحيّ اللُبنانيّ على وجه الخصوص أن يستعيدَ في مخيّلتِه سيناريوهاتٍ قاتمة انطلاقًا من خوفه بعد أن فقد في هذا الشرق أكثر من نصف إخوانه من المسيحيّين هربًا من احتلالٍ وتهويدٍ في فلسطين المُحتلّة، أو هربًا من قمعٍ وتهميش ثم إرهابٍ في معاقلهِ التاريخية على امتداد الوطن العربيّ.
حين يقول البطريرك بشارة الراعي إن “إطالة الشغور الرئاسي سيتبعه بعد مدة شغور في كبريات المؤسسات الوطنيّة الدستوريّة والقضائيّة والماليّة والعسكريّة والدبلوماسيّة”، مُحذّرًا من “فراغٍ في المناصب المارونية والمسيحية”، فهو يقولُه من منطلقِ القلقٍ لا من خِطَطٍ تآمُريّة. هو يخشى على مستقبلِ الوجود المسيحيّ في وطنٍ كان المسيحيّون في أصله وجذورِه واستقلالِه وتكبيرِه ونهضتِه العلميّة والاقتصاديّة والثقافيّة والفكريّة، والاجتماعيّة، والفنّية، وغيرها.
وحين يقول الكتائبيّ العتيق ورئيس تحرير صحيفة ” العمل” الناطقة باسم حزبه جوزيف أبو خليل في كتابه الحامل عنوان : ” لبنان وسورية مشقّةُ الاخوّة” :” يصعُب عليّ حتّى الآن أن أقول : أنا عربيٌّ، وإن قلتُها لا أكون صادِقًا” ويمتدح ديمقراطيّة إسرائيل التي زارها مرارًا، فهو يكشف في ذلك عن عمقِ عقدتين: اولاهما هو الانتماء العربي الذي غالبًا ما رأى فيه قسمٌ من المسيحيّن أنّه جسرٌ لطغيانٍ اسلاميّ، وثانيتُهُما هو البحث عمّا يُبقي الامتيازات المسيحيّة بشكل عام والمارونيّة على وجه الخصوص دون مساس منذُ تربّعت على عرش قيادة لُبنان بدعمٍ فرنسيٍ.
القلقُ المسيحيّ دفعَ تاريخيًّا إلى ظهورِ أفكارٍ وتحالفاتٍ داخليّة وخارجيّة خطيرة، فتارةً يعرضَ قادةُ الجبهة اليمينيّة المسيحيّة في العقد السابع من القرن الماضي على الرئيس السوري حافظ الأسد ” الوحدة” ( وفق الرواية التي ذكرها كريم بقرادوني ومحسن دلّول وعبدالله بوحبيب في كتبهم)، وتارة أخرى، يفتح قادة الموارنة أنفسُهم علاقاتٍ مع إسرائيل ، فيرسلون في الوقتِ عينه وفودًا الى حافظ الأسد ومناحيم بيغن.
ليسَ في ذاك التناقض الكبير في الارتماء في أحضان العدو والشقيق في الزمنِ عينِه سوى قلقُ المصير أولاً، ثم القلقُ على الدورِ والموقع المسيحيّين المميّزين منذ قيام دولة الاستقلال. لكن هل تلك الخيارات خدمت فعلاً المسيحيّين؟ ليس تمامًا، فقد اكتشف الجميع لاحقًا في العقد السابع من القرن الماضي، أيّ الجبهة اللبنانية، والحركة الوطنيّة بقيادة كمال جنبلاط الذي طالب بعزل اليمين المسيحي، ومنظمة التحرير، أن ثمّة صفقةً عُقدت بين الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ونظيرِه السوري حافظ الأسد بهندسةِ ثعلبِ الدبلوماسيّة الاميركيّة هنري كينسجر، كرّست الهيمنة العسكريّة والسياسيّة السوريّة في لُبنان، مع خطوطٍ حُمر إسرائيليّة لجهة جغرافيا الانتشار السوري ونوع العتاد العسكري والأسلحة بعيدًا عن منطقة الجنوب.
ثم اكتشف الجميع لاحقًا حتّى بعد اغتيال جنبلاط ثم الاجتياح الإسرائيليّ فاغتيال بشير الجميّل، أنّ الصفقات الاقليميّة-الدوليّة أهمّ من تطلعات الشعوب وقلقها، فعادت سورية الى لُبنان أقوى وهزمت جميع الأطراف الداخليّة. ولم يتغيّر مجرى الصفقات الاّ بعد وفاة الأسد الأب، وانسحاب إسرائيل من لُبنان في العام الذي تولّى بشّار الأسد الرئاسة، فكان غزو العراق عام 2003، ثم اتفاق الرئيسين جاك شيراك وجورج دبليو بوش لاستصدار القرار 1559 من مجلس الأمن عام 2004، الداعي لسحب الجيش السوري من لُبنان، فاغتيال الرئيس رفيق الحريري واندلاع ” ثورة الأرز” عام 2005 ( التي استعاد بعضُ قادتِها لاحقًا طريقَ دمشق).
هاجسُ الخوفِ من الحركة الوطنيّة بقيادة كمال جُنبلاط ومن منظّمة التحرير بقيادة الرئيس ياسر عرفات آنذاك، يتحوّل اليوم إلى هاجسٍ آخر، يتعلّق ليس فقط بسلاح حزبِ الله، وإنّما بالقلق من الطُغيان الإسلامي (الشيعي والسُنّي) واضمحلال الدور المسيحي، بالرغم من كل خطابات التكاذب السياسيّ والدبلوماسيّ القائلة ب ” الشراكة الوطنيّة” و” الميثاقيّة” و” الديمقراطيّة التوافقيّة” وكلّ المفردات والخزعبلات الأخرى.
المصيبةَ الكأداء تاريخيًّا وراهنًا، هو أنّ القلقَ لا يُنتجُ مشروعًا وطنيًّا، بل غالِبًا ما يلتقي المُخوِّفُ والخائفُ على الوطن، لا لأجلِه. فكيفَ إذا كان في الأمر خائفان، هُما المُسلم والمسيحي في الوطن عينه، الأول من مؤامراتٍ خارجيّة بامتداداتٍ داخليّة، والثاني من فائضِ قوّة داخليّ بدعمٍ خارجيّ. إنّ قّلّقين يُدمّران الدولة بداعي الحرص عليها وبوهمِ البحث عن طمأنينة.
فهل تُصبح أفكارُ التقّسيم أكثر بروزًا في المرحلة المُقبلة وتحتاجُ الى خضّات أمنيّة أكبر؟ وهل يُمكن فعلاً الركونُ الى دعمٍ خارجيّ لهذا الطرف أو ذاك؟ حتمًا لا، ذلك أن الخارجَ يحتاج لُبنان ورقةً في التفاوض أو الصفقات، ولم ينظر إليه يومًا ولن ينظر إليه مُستقبلاً كدولة ذات سيادة وكرامة، بل كمجموعة من القيادات المافياويّة الفاسدة، يُمكن توظيفها في لعبة شطرنج جديدة، كبيادق فحسب.
ليس أمام اللبنانيين اليوم كما الأمس، سوى تبادل التنازلات بدل العنتريات، فلا السلاح يُعدّل النظام لصالح حامِله وفق ما اثبت تاريخ لُبنان حيث كان لكلّ طائفةٍ دورٌ قويٌ وسلاحٌ يومًا ما، ولا الجنوح الى توسيع الفدراليّة صوب التقسيم يحمي مروّجيه. لا بُدّ من الاقتناع ولو لمرّة منذ الاستقلال، بأنَّ الطائفيّة لا تصنع وطنًا، وأنّ لُبنان بحاجة إلى مشروعٍ تأسيسيٍ حقيقيّ والى خططٍ خمسيّة وعشريّة لإلغاء الطائفيّة على مراحل، وبناء دولةٍ عادلةٍ، مع فصلٍ حقيقيّ للسلطات، وبعضِ كرامةٍ وطنيّة.
ما لم يبدأ اللبنانيّون بذلك، فهم سيبقون مُجرّد أوراقٍ تفاوضيّة تُربحُ الخارج وتقضمُ قسمًا إضافيًّا من دولةٍ ما عاد فيها شيءٌ يُشبه الدولة.