ما علاقة الانهيارات الاوروبية المتتالية بالحرب الأوكرانية؟
هادي جان بو شعيا
“أوروبا موحّدة”… حلمٌ لطالما راود القادة والزعماء الأوروبيين منذ عهد الإمبراطورية الرومانية مرورًا بمحاولة نابوليون بونابرت في القرن التاسع عشر وصولاً إلى حرب هتلر من أجل توحيد الأوروبيين بالقوة تحت راية “الرايخ الثالث”.
غير أن فشل محاولات نابليون وهتلر اثبت للأوروبيين بأن الحرب لا يمكن أن توحّدهم ولأنهم يرغبون بالاتحاد لأسباب عديدة منها سياسية واقتصادية وثقافية وخصوصًا بعد انهيار البنى التحتية الأوروبية نتيجة الحرب العالمية الثانية. إذ بدأت ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ودول “بنلوكس” BENELUX التي تضم كلاً من بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ في مسار تأسيس نواة الاتحاد الأوروبي المتعارف عليه اليوم، وذلك من خلال تشكيل الجماعة الأوروبية للفحم والصلب في العام 1951. وفي العام 1955، تبنّت هذه الجماعة علم الاتحاد الأوروبي الذي نعرفه الآن.
فيما يشهد الاتحاد الأوروبي اليوم إحدى أعتى الأزمات منذ تأسيسه في العام 1991 بلغت درجة اعلان أحد رؤساء الوزراء الأوروبيين أن الحكومات الأوروبية تنهار كالدومينو وذلك إثر استقالة عدد من الزعماء الأوروبيين من مناصبهم حتى أن دولة أوروبية تعتبر من مؤسسي الاتحاد الأوروبي صارت الصحافة الغربية تكتب عن احتمالية تقاربها مع روسيا على حساب أوكرانيا.
فما الذي يحدث في أوروبا؟ وكيف استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يتقدم على جميع الزعماء الأوروبيين؟
وهل ستؤدي الحرب القائمة في أوكرانيا إلى انهيار أوروبا كليًا أم أن القارة العجوز ستتخلى عن أوكرانيا لصالح روسيا في نهاية المطاف؟!
منذ الحرب العالمية الثانية وحتى أشهر قليلة عاش المواطن الأوروبي حياة الاستقرار والرفاهية مقارنة مع معظم سكان العالم، إلا أن الهجوم الروسي على أوكرانيا بث الرعب في نفوس المواطنين الأوروبيين لأول مرة منذ عقود طويلة. ولعلّ انهيار اليورو مقابل الدولار الأميركي في الأيام القليلة الماضية أدخل الأوروبيين في نفق مظلم من عدم اليقين.
ذلك أن السلم والأمن ويضاف إليهما الاقتصاد كانت معادلة ذهبية ساهمت بتوفير حياة رغيدة للأوروبيين. أما اليوم، تفككت المعادلة الذهبية إذ أضحى السلم والأمن في مهب الريح والاقتصاد على وشك الانهيار. كما تمكنت الحرب الروسية-الأوكرانية من تعرية الاقتصاد الأوروبي وإظهار هشاشته، فضلاً عن ضعف الاتحاد أمام روسيا، خصوصًا أن الدول الأوروبية مجتمعة لم تستطع مواجهة روسيا لا سياسيًا ولا إقتصاديًا ولا حتى عسكريًا، ذلك أن الدول الأوروبية مجتمعة لم تستطع تقديم سوى فتات الدعم العسكري لأوكرانيا مقارنة بالولايات المتحدة الأميركية رغم أن خسارة أوكرانيا للحرب ستنسحب آثارها المباشرة على أوروبا أكثر مما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة.
وعليه يمكن القول أن الحرب الدائرة أضحت بمثابة المستنقع الذي يغرق الأوروبيين الذين يخشون البرد القارس في الشتاء القادم بلا تدفئة بسبب انقطاع الغاز الروسي عنهم، هاهم يصابون بالذعر القادم من خلف الكواليس الاقتصادية التي تشي بانهيار محتوم بدءًا بانهيار اليورو مقابل الدولار، مرورًا بمؤشرات التضخم المرتفعة لتعميق الجرح الأوروبي، وصولاً إلى انهيارات كبرى ستطال جميع القطاعات قريبًا.
إذا أمام هذا الواقع لا بد من طرح السؤال التالي: هل سيدفع الاقتصاد الأوروبيين للتراجع عن دعم أوكرانيا؟
مما لا شك فيه أن السياسة الأوروبية تعيش حالاً من التخبّط الشديد بسبب الواقع الاقتصادي، ولعلّ استقالات الزعماء السياسيين من مناصبهم صارت تدفع الإعلام الغربي والروسي للتحليل إلى إمكانية تحوّل مواقف بعض الدول الأوروبية من حال العداء إلى الصداقة مع روسيا للخروج من عنق الزجاجة الاقتصاد. ذلك أن أحد المرشحين لخلافة رئيس الوزراء البريطاني المستقيل بوريس جونسون وهو وزير المالية البريطاني السابق ريشي سوناك ذو الأصول الهندية الذي يبدو أنه مهتم بالصراع مع الصين أكثر من اهتمامه بروسيا.
الجدير بالذكر أن جونسون قدّم استقالته إثر ضغوطات كبيرة مورِسَت عليه لأسباب عدة، إلا أن السبب الرئيسي تجلّى بتراجع الاقتصاد البريطاني بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا. غير أن جونسون ليس الضحية الأوروبية الوحيدة للحرب بل القائمة تطول وتضم رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي الذي قدم استقالته كذلك لأسباب تتعلق بالتراجع الاقتصادي في بلاده أيضًا. وقد يتسلّم رئاسة الوزراء في إيطاليا ماتيو سالفيني السياسي المقرّب من موسكو عمومًا، ومن شخص الرئيس بوتين خصوصًا، ويتمتع بخلفية وتوجهات متناقضة تمامًا مع دراغي الذي كان مؤيدًا بشدة لتوجهات حلف شمال الأطلسي “الناتو” والاتحاد الأوروبي ضد روسيا، فضلاً عن إعطائه أوامر بإرسال الأسلحة إلى كييف دعمًا للمقاومة ضد الجيش الروسي.
أما بالنسبة لسالفيني فقد كان يغالي بعلاقته الطيبة التي تجمعه ببوتين، حيث وقف ذات يوم متفاخرًا بالتقاطه صورة أمام الكرملين وهو يرتدي قميصًا طُبع عليها صورة سيد الكرملين. صحيح أن ذلك قد يكون من الماضي وليس له علاقة بالحاضر خصوصًا أن السياسة تتغير مع تبدّل الأولويات والمصالح، إلا أن الإعلام لا زال يعتبره مقرّبًا من موسكو.
يضاف إلى لائحة ضحايا الهجوم الروسي على أوكرانيا رئيسة وزراء إستونيا كايا كالاس التي تقدمت بدورها باستقالتها بسبب نقص الغاز الحاد في البلاد، الأمر الذي دفع رئيس وزراء المجر (هنغاريا) فيكتور أوربان للقول بأن “أوروبا فشلت في ملف أوكرانيا وبأن حكوماتها تنهار كالدومينو”.
لكن قبل الختام، لا بد من التوضيح بأن الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، فضلاً عن استقبال ملايين اللاجئين الأوكرانيين أثر على الاقتصاد الأوروبي أيضًا. كل ذلك حدث والحرب لا زالت قائمة وقد تتجه نحو مزيد من التصعيد، ما يشي بتراجع الاقتصاد الأوروبي على نحو درامي، لذلك خرجت أصوات تنادي بإعطاء روسيا ما تريده من أوكرانيا حفاظًا على ماء وجه الاقتصاد الأوروبي، لكن في حال أقدمت أوروبا على هكذا خطوة فستتحوّل من اتحاد ضخم له مكانته في السياسات الدولية إلى قارة تتبع الكرملين الروسي. ما يضع أوروبا بين ناريَن: إما التنازل للرئيس الروسي أو السير خلف واشنطن ودعم الأوكرانيين حتى النهاية وإن كان ذلك على حساب الاقتصاد.