الحبّ وحده يُحطّم الجليد، في رواية: الأحذية الايطالية

ديانا غرز الدين

“حين نسافر في سيارة عبر مشهد شتوي ، يتملكنا احساس بأننا نخترق جدار الصوت . كل شيء صامت في الداخل و الخارج. فصول الصيف و الربيع و الخريف لا تصمت ابدا . وحده الشتاء اخرس “

يقال ان اجمل الوعود هي تلك التي لم تنفذ . و اجمل الاحلام هي التي لم تتحقق بعد . و لكن من يعلم مدى الحزن الهائل الذي قد يسببه وعد كاذب  او حلم تبخّر؟

نحن ننسى و نتجاوز حيث ان  النسيان و التجاوز نعمة عظيمة و لولاهما لاثقلتنا الحياة بخيباتها و لما استطعنا التقدم الى الامام . ننهض كل صباح نجمع شظايانا و نعاود تجميع ذواتنا ، نترك ماضينا خلفنا و نبدأ من جديد . و لكن الماضي يعود دوما.  لا يكف عن ملاحقتنا و طرق بابنا. عاجلا ام اجلا سنضطر لمواجهته، تصحيحه ،الاعتذار عنه و منه،و التعايش معه .هي سمفونية الحياة التي تدير مقودها و تسلك اتجاهات لم تكن في حسباننا، في الحين الذي كنا نظن ان لا شيء سوف يحدث لنا.  نؤذي الاشخاص دوما . نبعدهم عن حياتنا او نبتعد نحن عن طريقهم. نرتكب اخطاء لا تغتفر.ثم تأتينا الحياة بفرصة ان نواجه ذنوبنا و اخطاءنا و ان نشعر بالندم و نطلب الغفران و نعتذر .  وحدها القلوب الكبيرة قادرة على المغفرة . يوما ما سيتحتم عليك ان تعود لمواجهة ذاتك مهما امعنت في الهرب .  ففي نهاية الامر كل الامور تعود الى مكانها الصحيح .

رواية ” الاحذية الإيطالية ” للروائي السويدي هننغ مانكل احد ابطال “اسطول الحرية” ، تصف كآبة فصل الشتاء و لياليه الطويلة الباردة و الوحدة التي يعيشها المرء و انعكاسها على مزاجه و حالتيه النفسية و العقلية.و عن هروبه من الحياة و اختيار العزلة وتخدير ضميره و العيش كأن شيئا لم يكن.  هي قصة فريدريك ويلن الجراح الستيني الذي اضطر الى اعتزال الطب بسبب ارتكابه خطأ لا يغتفر وهو في اوج مجده و عطائه المهني. اعتزل المجتمع ولجأ الى جزيرته الخاصة حيث عاش وحدة قاسية لمدة ثلاثة عشر عاما لا يزوره غير ساعي البريد، قبل ان يأتي اليوم الذي ستنقلب فيه حياته راسا على عقب مرة اخرى.

ان الحب هو ما يحطم الجليد دوما، وهو الذي يحرك الماء الراكدة.

سبب الدكتور ويلن الكثير من الاذى والالم الفظيع لغيره. ارتكب الاخطاء. تخلى عن حبيبته فجأة من دون مبرر، و دمر مستقبل احدى مريضاته بسبب خطأ طبي. لكن المريضة و الحبيبة السابقة تعاودان الظهور في حياته لاحقا مع مفاجآت مذهلة و غير متوقعة ، و تتوالى الاحداث و المفاجآت بسرعة بعد الهدوء النسبي في اول الرواية.

من الكتاب : ” طوال حياتي اشعر بالبرد، بحثت عن الدفء في كل مكان ، في الصحارى وفي البلدان الاستوائية… كثيرون من الناس يجرّون احزانهم، و آخرون قلقهم، انا أجرّ نصلي الجليدي…”

” مثل دخان رمادي كان الفجر يطلع على البحيرة المغطاة بالثلج” .

” ثمة حزن خاص يرافق هجرة الطيور الراحلة، بعكس الفرح الذي نشعر به حين عودتها في الربيع..”

 الرواية هي عن قوة المسامحة والغفران. ايقاعها بطئ وسردها هادئ، لكن بأسلوب ساحر لا يسمح بالملل. ثمة الكثير من المشاهد الشتوية الكئيبة و الصامتة التي هي من صلب يوميات القاطنين في تلك المناطق النائية، كما هي حال معظم شعوب أوروبا الشمالية . من خلال الوصف المدهش تستطيع الشعور بحال الطقس وعيش حالة الكاتب المزاجية كما يفرضها واقع المناخ السويدي الجليدي و شتائه القارس الذي لا ينتهي.

كتاب ممتع ينقلك الى أجواء شتوية باردة مع ما يصاحبها من عمق تفكير و بحث عن الذات و عن قليل من دفء المشاعر الانسانية و الحرارة التي يخلقها الاتصال و التواصل مع الاخرين.

هننغ مانكل هو روائي وكاتب مسرحي سويدي ولد عام ١٩٤٨ و توفي في ٢٠١٥ بعد صراع مع المرض. يعتبر من ابرز كتاب رواية الجريمة في العالم و صاحب سلسلة روايات بوليسية نال بسببها العديد من الجوائزالعالمية . كان من اشهر المشاركين في “اسطول الحرية” الشهير الذي انطلق من قبرص عام ٢٠١٠ متوجها الى غزة و محملاً بالمساعدات و المواد الغذائية لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض عليها . وحين جرت مداهمة الأسطول في عرض البحر من قبل القوات الإسرائيلية تم اعتقال العديد من الركاب من بينهم مانكل الذي رحّل الى السويد . فعمل إثر ذلك على نشر يومياته عن الرحلة والتي أدان فيها اسرائيل بقوة. من ابرز اعماله “سر النار” و ” خيوط الهرم” و ” الكلاب في ريغا ” و غيرها الكثير. ترجمت معظم اعماله الى العديد من لغات العالم و حوّل الكثير منها الى افلام و مسرحيات . كان مانكل موضع احترام و تقدير العديد من الكتّاب وصاحب مواقف تسجل له ضد انظمة الفصل العنصري و انتهاكات حقوق الانسان في افريقيا وإسرائيل. كما اشتهر بمساندته للقضية الفلسطينية .

lo3bat elomam

Recent Posts

غيمةَ العطر..اسكبيها

مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…

4 days ago

Et si le maquillage n’était pas seulement une affaire de femmes !

Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…

5 days ago

هآرتس: لم نحقق شيئًا، ولم نهزم أحدًا، واقتصادُنا منهار وشبابُنا يهاجرون

ترجمة عن صحيفة هآرتس  لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…

5 days ago

ملتقى أبو ظبي: وهم الاستقرار في عالم مضطرب ولكن….

 ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…

6 days ago

Quand changer l’heure devient une affaire d’état !

Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…

2 weeks ago

ماذا سيفعل ترامب في فلسطين واوكرانيا

  Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…

2 weeks ago