سامي كليب:
لولا مديحِه ببشير الجميّل بعد اغتياله في أعقاب انتخابه رئيسا للُبنان في خلال الاجتياح الإسرائيلي، وقوله عنه إنه وجد فيه ” آمالاً كباراً للُبنان، وإننا خسرنا فيه رُكناً، كُنّا نُمنّي أنفسَنا بشيء منه لمستقبل لُبنان”، لكان القسمُ الأكبر من المذكّرات الغنيّة لرئيس الوزراء اللبناني السابق صائب سلام والزعيم البيروتي والسُنّي اللُبناني المولود عام 1905 والمتوفّي عام 2000، بدا كتصفية حساباتٍ متأخرة مع معظم ساسة لُبنان، وكشف، وللأسف الشديد، كما العديد من مُذكّرات أخرى كتبها ساسةٌ لُبنانيون، كم كان لُبنانُ مجرّد بيدقٍ على رقعةِ شطرنج إقليمية ودولية، وكم كان معظمُ ساستِه يبيعون الوطن لأجل مصالحهم الشخصية وعلى حساب كراماتهم وكرامة شعبهم، او بالأحرى شعوبهم.
هي مُذكّراتٌ طال انتظارُها، لأن هذا ” البيروتي العتيق” الذي كان يُزيّن صدرَه بوردة القرنفل الشهيرة، ولا يُفارقُ السيجارُ الكوبيُ الفاخر شفتيه، كان قد بدأ بتدوينِها باكِراً، ووعد بنشرِها مراراً، قبل أن تتلقّفها -وحسناً فعلت- دارُ نشر هاشيت/أنطوان/نوفل اللبنانية الدولية، وتُصدرَها أمس بثلاثة أجزاء أرّخت لكل التاريخ الشخصي والسياسي لابن عائلة سلام العريقة ، منذ وُلد في المصيطبة، مرورا بانتخابه نائبا لست مرّات متتالية، ثم توليه منصبا وزاريا مرتين ، فرئيسا للوزراء ست مرّأت أيضا، ناهيك عن عشرات الشركات التي أسسها أو تولّى أدارتها وبينها مثلا “شركة طيران الشرق الأوسط” و” جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت ” . هذا بالإضافة الى صولاته وجولاته الخارجية العديدة، حيث كان عند الرئيس جمال عبد الناصر حين وقعت هزيمة 5 حزيران 1967، وفي السعودية مُشيّعا الملك فيصل وفي الأمم المتحدة مُستمِعاً ومؤيداً للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في خلال القائه خطابه الشهير للمرة الأولى من على هذا المنبر الدولي.
يتولّد لدى قارئ هذه المذكّرات عددٌ من الانطباعات او المشاعر المتناقضة، فهي من جهة تروي حياةً صاخبةً وزاخرة بالأحداث المحلية العربية والدولية لرجلٍ عاصرها أو كان جزءاً منها، وهي من جهة ثانية تُشعر اللبناني والعربي بكثير من الخجل أمام تضييع هذا الكمّ من الفُرص بسبب سوء تقديرِ الساسة أو تواطؤهم أو قصر نظرهم كي لا نقول غباءهم. وهي من جهة ثالثة تؤكد أن التاريخَ يُكرّر نفسَه، لكن في كل مرة بصورة أقبح من التي سبقت. مع ذلك فهي تبقى ضرورية لجيلين على الأقل لم يُعاصرا تلك الأحداث، ولم يعرفا عن الكثير منها شيئا. فالرجل يروي قصةَ السياسة لقرنٍ كاملٍ زاخر بالأحدث اللبنانية والعربية المأساوية في معظمها طيلة القرن العشرين.
وكما كان في حياته، غالباً ما يُجدّف عسكَ التيار ويتعرّض لكل أنواع الاتهامات، فإن صائب سلام، يتركُ بعد وفاتِه، إرثاً سياسياً في هذه المُذكّرات تُقدّم رواية مغايرة للكثير من الاحداث المحلية والعربية والدولية، ويروي بنسبة كبيرة من الصراحة قصصاً كثيرة كان شاهداً عليها أو مُشاركاً فيها. وفي كلّ ما يُقدّم يُريد القول إنه بريء من دمِ لُبنان وإنه سعى لتجنيبه ويلاتٍ كثيرة، خصوصا أنه في حياته كان قد تعرّض مرارا لتُهم التخوين من قياداتٍ في الحركة الوطنية اليسارية.
ولأنه يُدرك أثر هذه المُذكّرات وما قد تُثيرُه من ردود فعلٍ ضدّه، فهو مهّد لها بالقول في المقدّمة:” قد يبدو في بعض الصفحات أنني ذكرت من الوقائع ما قد يُسيء- ولو بالقدر اليسير، الى البعض، من لُبنانيين وعرب، غير أن هذه الإساءة إن بدت، لا تنطلق من رغبة في سلوك السبيل السلبية، بل من الإصرار على ذكر الحقيقة وتجنّب الزلل، فما أريده من هذه الذكريات هو فقط وضعُ القارئ أمام الحقيقة العارية..”.
وهنا بعضُ الأمثلة عمّا يراه المؤلف حقيقة عارية:
- إن المسلمين متفقون مع أمين الجميل (الرئيس السابق) بالنسبة لاتفاق 17 أيار مع إسرائيل. جاءني القائم بالأعمال المصري صلاح زكي راغباً أن يفهم منّي موقف المُسلمين من الاتفاق مع إسرائيل، فأكدت له أنني أقف مؤيدا كامل التأييد لخطوات الحكم اللبناني في هذا المجال، وأنني كنت اتابع المفاوضات خطوة خطوة.. وأنا واثقٌ بأنني في هذا أُعبّر عن شعور ورغبات الأكثرية الكُبرى من المُسلمين، ولا عبرة لتلك القلة من السياسيين والمستوزرين والذين يفتّشون لهم عن دور أو تُسيّرهم الأهواء، او بعض الدول العربية.
- هناك ما أُسمّيه ” الجبليات” أي التنافُس التاريخي بين الدرزي والماروني، وكيف أن الجنبلاطي لا يُمكنه أن يتصوّر الماروني، وبصورة أخص ابن الجميّل رئيسا للجمهورية.
- الإسرائيلي وأثناء احتلاله الجبل كان ينفخ في الدروز روح العداء وينشر الدعوة الشفهية والخطّية لإقامة دولة درزية. وهناك من القوّات اللبنانية من أسمّيهم ” شارونيين” نسبة لوزير دفاع إسرائيل السابق، وهم في نظري إسرائيليون أكثر من بعض الإسرائيليين، يطعنون لُبنان في الصميم.
- سبب تمسّك النائب حسين الحسيني (أصبح لاحقا رئيسا لمجلس النواب) بنظرية حياد لُبنان هو مرافقته ” روجيه إدّه” وهو من أصحاب الملايين وصاحب فكرة الحياد وهو يضع فيها دراسات يزوّدنا بها بالإنجليزية في الحين بعد الحين.
- زارني حسين الحسيني وروى لي أشياء عن زيارته مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين لدمشق، وفي جملة ما رواه ما وقع من صدام هناك بين الشيخ شمس الدين ووليد جنبلاط بسببي، اذا تعرّض لي جنبلاط فصدّه شمس الدين بقسوة، والأهم من ذلك هو أن جنبلاط أراد ان يقنعَهما بأن ما لدى الشيعة والدروز من روابط تجعلهما في مركز القوة ليجابها السنة ، فقال له الشيخ شمس الدين :” أرجوك ان تفهم أننا والسنّة جسمٌ إسلامي واحد، بل إنني لأعتبر نفسي سُنّياَ مثل شيعياً ، فانا مُسلم وكفى”. وانا اتحفظ مع جنبلاط في التفاصيل كما في الجوهر، لأن الإنسان لا يمكنه ان يضمنه من ” الفيّ الى الشمس” كما يقولون. وهو شخصية غريبة عجية، ولو حاولت وصفه أو تصويره لأخذ ذلك مُجلّدا دون الوصول الى كنه حقيقته.
- رفيق الحريري (رئيس الوزراء الراحل) مندوب السعودية كان يُقابل (عبد الحليم) خدّام في دمشق، وفي بيروت لا يُقابل سوى (نبيه) برّي ولساعات طويلة ولكن دون جدوى، وعلى ما يبدو لجميع المراقبين، فإنه باعَنا بيعاً كاملا، ولا أدري إن كان ذلك بعلم المسؤولين في السعودية أو لا، فهو قد أتى الى بيروت مرّات عديدة ولم أرَ له وجهاً، ويظهر أن رئاسة الوزراء وشهوتَها العاجلة عطّلتا رؤيته الكاملة. وفي نظر الكثيرين، هو-ويا للأسف- قد سقط من مرتبة الأسطورة التي ساعدناه على الوصول اليها. فالوسيط السعودي رفيق الحريري كان يُكرّر التسرّع وعدم الدقّة في التصرّف، وهذا رجلٌ آخر مثل (سليم ) الحص ( رئيس الوزراء السابق) خسرنا فيه قيمة كان يُمكن أن يكون منها فائدة إسلامية ووطنية ، وليس من قبيل التبجّح أذا قُلت إنه كانت لي يد في جعل الحريري أسطورة عند البعيد والقريب. حتى أنني في مُناسبتين ساعدت في إنقاذه من ورطة كاد يقع فيها مع الملك فهد ومن هم حوله. ويوم ذهبت لأول مرة بعد أحداث 1982 لزيارة الملك، كنت انا الواسطة بتعريفه اليه.
- كان قرفي كبيرا من (شفيق) الوزّان ( رئيس الوزراء الراحل) الذي كان يُهملُ الجميع ويُهملني ، ثم يأتي يتغطّى بنا.
- الغرور هو أكبر أمراض الرجال، وهذا كان ممّا ابتُلي به أمين الجميل وشفيق الوزّان.
- حاولت جُهدي مع الوزّان حين شكا من المفتي أن أشدّ عصبه ليتصرّف مع المُفتي بحزم فلا يخشاه، بل أن يجعله يحذر جانبه عندها يقف مواقف جامدة، وانا كنت بعد التجارب المتعددة ويأسي من تصرّفات المفتي الشاذة والذي أصابه الغرور، قد قرّرت أن اهمله وأن أشدد على ضرورة عدم تدخله بالأمور السياسية، وحصر عمله ضمن النطاق الديني الذي أهمَله ويهمله، وهذا ما يجعله موضع تذمّر من المسلمين.
- كميل شمعون (الرئيس اللبناني الراحل) عُرف دائما بأنه يلعب السياسة دون أي اعتبار سوى لما يرى فيه مصلحته الشخصية. وقد أصبح واضحا أنه يتّكل على تحالفٍ مع إسرائيل خصوصا بعد أن أعلن داني (ابنه) من تل أبيب بالذات ترشّحه لرئاسة الجمهورية، مما جعلني أرفض مقابلتَه.
- لُبنان لا يُمكنه في أي حال من الأحوال العيش باستقرار وأمان، إن لم يكن على وفاق مع سوريا، وهذا ما أردّده في السرّ والعلن، ولكن للأسف أيضا، فإن سوريا لم تدرك الى اليوم إن ما توقع فيه لُبنان من فوضى، وسيطرة المُخبرين، وتمرّد الإرهاب الدولي فيه، وتدفّق النفوذ الإيراني والليبي عليه، إنما سيعود على كل بلد عربي بالضرر الكبير وعلى سوريا بالذات قبل أي بلد عربي آخر.
- زارني رضوان السيّد (مُفكّر وكاتب لُبناني متخصص بالإسلاميات) الذي كان في ليبيا أخيرا، وقال إنه فهم من القذّافي إنه أمدّ سوريا بأربعة مليارات دولار للتسلّح من روسيا بعد الغزو الإسرائيلي في العام 1982، وأن العلاقة بينهما اليوم ليست على ما يُرام، وكذلك فهو يرفض الاستمرار في إمداد جنبلاط الذي أغدق عليه الملايين، حتى إنه لم يُقابل مندوبه رياض رعد في ليبيا. أخبر القذّافي السيد أيضا بأنه منذ الغزو الإسرائيلي قد صرف على لُبنان، على من يعتقد أنهم يقاومون إسرائيل، ما يزيد على خمسمئة مليون دولار وهو يعرف أن معظَمها قد أصبح في بنوك سويسرا وأميركا.
- غازي كنعان (قائد القوات السورية سابقا في لُبنان) قال لتمّام ( ابن المؤلف صائب سلام) : نبيه برّي ضرورة للحالة الشيعية في مواجهة حزب الله، وانه على الرغم من المآخذ الكثيرة عليه، فهو يبقى ضمانة وطنية وقومية. أما بالنسبة لحزب الله فهو ضرورة سياسية في هذه المرحلة لإلغائه في ما بعد مقابل إلغاء القوات اللبنانية عندما يستحقّ الحل، وعلى الرغم دعم إيران المُباشر له معنويا ومادّياً فإنهم قد أفهموا قيادَته بشكل غير مُباشر عند دخولهم العسكري الى بيروت منذ سنة، وضربهم لمجموعاته في ثكنة فتح الله في البسطة إنهم لا يتساهلون ولا يتهاونون في هذا الأمر، وقد قام هو شخصياً (غازي كنعان) بتهنئة ومكافأة الضابط الذي نفّذ عملية ثكنة فتح الله.
- قال عبد الحليم خدّام (نائب الرئيس السوري سابقا): اننا نساعد حزب الله أولا لأننا نساعد من يقاوم إسرائيل، وهذه أمانة عندنا، ثانيا ونظراً للإمكانيات المالية الإيرانية التي تأتيه، فإن الذين ينضوون تحت لوائه أغلبهم يقوم بذلك للمنفعة، أما التطرّف بحد ذات فلا يُمكن ان يتحوّل الى حالة شعبية، وهم بالنسبة لقساوة تعامُلِهم غير محبوبين شعبيّاً.
- في الحديث عن جنبلاط قال خدّام إنه على الرغم من كل تصرفات جنبلاط الشاذة، لا ننسى أنه ووالده، كمال جنبلاط (قائد الحركة الوطنية) كان لهما دائما مواقف وطنية وقومية وعربية صادقة وقوية، وان وليد قد سلّمهم شخصيا الكثير من الجواسيس والعملاء الإسرائيليين الدروز، وهو في النهاية لا يخرج عن إرادتهم.
- كان السوريون على استعداد لاستقبال أمين الجميل شرط ان يُعلنَ عن الذين اغتالوا رشيد كرامي (رئيس الوزراء الراحل) فهو على علم بهم فضلاً عن أن لدى السوريين معلوماتٍ أن الجميّل كان على علم مُسبق بالجريمة من خلال تقارير رُفعت له من قبل مدير المخابرات قسّس ومدير الامن العام قبل حدوث الجريمة، وأنهم، أي السوريين، وصلتهم هذه المعلومات بعد حدوث الجريمة.
- مع الأسف، بعض المسلّحين اللبنانيين ( في خلال الاجتياح الاسرائيلي عام 1982) ومن وراءهم الذين عاشوا على التخريب منذ سنوات، لا يفيدهم أن نأتي اليوم بأي حلول، وها هي البلاد كلها ترى ما أسعى إليه جاهداً منذ أسابيع، في الأيّام والليالي، مع هذا وذلك، مع رئيس الجمهورية، مع حبيب، مع أبو عمّار الذي يزورني مرّتين في اليوم تقريباً، وهم جميعاً يقدّرون ذلك، إلا أنّ هذا التقدير يصبح عكسه عند بعض الفصائل المسلحة من أمثال «المرابطون» وأمثال فلول «الحركة الوطنية» الذين يحرّضون، وقد صرّحوا -كما أفادتني رسالة من سركيس نعوم، المحرّر في «النهار»- بـ«أنّنا لن نسامح بعد سبع سنوات تسميتهم جهادنا تخريباً، وبأن يأتي صائب سلام ليأخذ وجاهة حلّال المسائل
- بارقةُ الأمل تأتينا من العراق، بقيادة البطل الفذّ صدّام حسين، الذي يقف مع بلده بحمية عربية، وعقلانية طالما افتقدناها عند المسؤولين العرب، فيُشكّل سدّا منيعاً يحمي الأمة العربية، بل والعالم الإسلامي جميعا، من طُغيان الهجمة الفارسية الشرسة التي تأخذ من الدين ستاراً زائفاً لها. (كتب صائب سلام هذا الكلام عن الرئيس العراقي الراحل في العام 1988 أي قبل غزوه الكويت).
هذا غيضٌ من فيضِ ما جاء في الكتاب، الذي يتوقّف مطوّلا عند الاجتياح الإسرائيلي والقصف الهمجي لبيروت والعلاقة مع الفلسطينيين ومؤتمرات الحوار اللبنانية-اللبنانية في الداخل والخارج والعلاقة مع السعودية التي ساعدت سلام ومؤسساته بمئات ملايين الدولارات، والحوارات مع الغرب والشرق، ليصلَ الى نتيجة مُرّة تقول :” كم يحزّ في نفسي أن أبدأ بتدوين هذه الذكريات في زمن تعطّلت الارادات الخيّرة، وطغت قوى الشرّ، واضطربت الموازين وتبدّلت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل والجغرافية والديموغرافية أيضا على ساحة الوطن العربي الواسع، وبواقع أشد بروزا في وطني لُبنان…” .
لغةُ الكتاب سهلةُ وسلسلة، ساهم في صياغتها اعلاميان وكاتبان مُحترفان هما شكري نصرالله وإبراهيم العريس وأشرفت على التحرير والمتابعة الإعلامية رنا الحايك من دار نشر هاشيت/ أنطوان/ نوفل، وزاد الكتابُ جمالا الصور الكثيرة فيه لمعظم مراحل حياة المؤلف الذي لا شك أنه كان علامة فارقة في تاريخ بيروت ولُبنان رغم اختلاف الآراء بشأنه بين قائل بأنه كان وطنيا عروبيا صادقاً يعمل بعقلانية لأجل لُبنان بين حقول ألغام، وبين مُتهِماً إياه بأنه وقف ضد خيار وطني يساري في لُبنان وساهم في تشريع وصول بشير الجميّل الى السُلطة وكان رجعيّاً وغربيَ الهوى… التاريخ وحده سيحكُم. لكن الكتاب حتماً جديرٌ بالقراءة وممُتع رغم قساوة ما فيه.