آخر خبرمقال اليوم
أميركا والصين، تصعيدٌ تلجمه الواقعية السياسية؟
هادي جان بو شعيا
رغم الإهتمام الدولي المركّز على الحرب الروسية في أوكرانيا، إلا أن القمة الأمنية لما يعرف بـ”شانغري-لا” Shangri-la في سنغافورة خصّصت حيّزًا هامًا لقضايا الأمن الآسيوي، حيث اجتمع على هامش القمة كلٌّ من وزير الدفاع الصيني وي فنغ بنظيره الأميركي لويد أوستن، ورغم أن المحادثات جرت بسلاسة بينهما كما يقول المسؤولون الصينيون، إلا أن الخلافات ما زالت عميقة بشأن الموقف من السيادة على جزيرة تايوان.
الولايات المتحدة، التي تعتبر أهم داعم دولي ومورّد أسلحة لتايوان، تنظر بقلق إلى تحرّكات الصين في المنطقة. بينما تقول بكين إن تايوان المتمتعة بالحكم الذاتي تعتبر إقليمًا تابعًا لها ويدخل في نطاق نشاطاتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي، وهي توعّدت بضمّها بالقوة إذا لزم الأمر، ولذلك فهي نفّذت عشرات عمليات التوغل في منطقة الدفاع الجوي التابعة لتايوان هذا العام، بينما حذّر وزير دفاعها وي نظيره الأميركي أوستن الجمعة من أن الصين مستعدة لإشعال حرب إذا أعلنت الجزيرة استقلالها.
الجديد الآن هو أن الرئيس الأميركي جوزف بايدن بدا خلال زيارته اليابان في الشهر الماضي كأنه يتخلى عن السياسة الأميركية المتبعة منذ عقود عندما قال في ردّ على سؤال إن واشنطن ستدافع عن تايوان عسكريّا إذا ما تعرّضت لهجوم صيني. لكن سرعان ما سارع البيت الأبيض إلى تدارك الموقف، مشدّدًا مذّاك على أن سياسته القائمة على “الغموض الاستراتيجي” بشأن إن كانت ستتدخل أم لا لم تتغير.
تطالب الصين بالسيطرة الكاملة على بحر الصين الجنوبي الغني بالموارد، في خلاف مع كل من بروناي وماليزيا والفيليبين وتايوان وفيتنام، ويُعد هذا البحر ممرًّا لتجارة تقدّر بتريليونات الدولارات سنويًا.
واتُّهمت بكين بنشر معدات عسكرية تشمل صواريخ مضادة للسفن وصواريخ أرض-جو في المنطقة، متجاهلةً بذلك قرارًا قضائيًا دوليًا صدر عام 2016 واعتبر أن لا أساس لمطالبتها التاريخية بمعظم أجزاء البحر.
قد يتبادر إلى ذهن البعض فور سماع التصريحات الصينية والتصريحات الأميركية المضادة أن الرئيس الصيني تشي جين بينغ قد يقتفي مع تايوان أثَرَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع أوكرانيا، رغم انه دعا مرارا لحل المشكلة الاوكرانية سلميا، بينما يرى البعض الآخر ان الصين قد تلجأ الى مواجهة بالوكالة مع الغرب الاطلسي ( By Proxy) وثمة من يقول ان الصين التي دعمت روسيا اقتصاديا وماليا وفتحت حدودها لها في الحرب الأوكرانية، إنما اعتبرت هذه الحرب تجرّبة لها وبالون اختبار لما ستكون عليه ردة فعل الغرب لو فعلت الشيء نفسه في تايوان، وأنها منذ لحظة الغزو الروسي تُراقب وتدرس وتأخذ ملاحظات.
مما لا شك فيه أن التصريحات المتناطحة بين وزارتَيْ الدفاع في بكين وواشنطن تأتي بمثابة مساومتيْن إستباقيتيْن لمآلات ما يحدث الآن في تايبه وكيفية قراءة التايوانيين الوضع الراهن بين إرادة السيادة الصينية المطلقة وإرادة “الحماية الأميركية”.
تعتقد الصين أن لديها فرصة ذهبية للتشبث بالسيادة على منطقتيْن إثنتيْن: جزيرة تايوان أساسًا وبحر الصين الجنوبي تباعًا. في حين تحاول الولايات المتحدة إبقاء قاعدة المناورات قياسًا بالوضع الراهن وعدم جنوح بكين بتأويلاتها نحو إسقاط حال أوكرانيا على تايوان بالنسبة للمواجهة القائمة منذ أكثر من ثلاثة أشهر بين الكرملين من جهة وحلف شمال الأطلسي “الناتو” من جهة أخرى.
ولا أدلّ على ذلك من تصريحات بايدن التي قال فيها قبل فترة قصيرة “إن الصين تلعب بالنار حاليًا عبر التحليق بالقرب من تايوان”، ما يكرّس مفاعيل الاستراتيجية الأميركية التي حملها معه سيّد البيت الأبيض منذ وصوله قبل 18 شهرًا الى منصب الرئاسة، والتي تركز على احتواء الصين China Containment. فيما يبدو أن العالم يعيش اليوم أول اختبار عملي لجهة القلق الأساسي الذي باتت تشكله الصين فعليًا، خصوصًا أن واشنطن على مفترق طرق أساسي بين موسكو وكييف من جهة وبروكسل، حيث مقر الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “الناتو”، من جهة أخرى. وبالتالي باتت سياسة بايدن إزاء الصين تتركز على أكثر من وجهة.
صحيح أن المناورات الصينية تأتي بمثابة رسالة إلى الداخل التايواني كما إلى مراكز القرارات السياسية في الغرب خصوصًا واشنطن، ولكن تلويح الصين بالحرب يتزامن مع تغيّر جيو-سياسي هائل على وقع الغزو الروسي لأوكرانيا ما يقودنا إلى طرح السؤال التالي:
كيف أثرت حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا على المواجهة الأميركية-الصينية حول تايوان؟
ثمة أمران جديران بالملاحظة:
– أولاً، يعيش العالم في عصر لا تُخاض المعارك بأدوات تقليدية وانما بأخرى جديدة يسودها الاقتصاد السياسي والعقوبات والتكنولوجيا ( حروب السايبرنت) والتي لا تتلاقى مع أزيز الرصاص والمدفعيات وسواها في أرض المعارك، ما يكرّس تحولاً جديدًا أو ما يصح وصفه بالتحوّر الجديد والابتعاد عما كان يعرف بالحروب الخامسة وهناك حديث حول الحرب السادسة التي تشكل سردًا جديدًا ولا أدل على ذلك غير حرب أوكرانيا.
– ثانيًا، الانشغال بالحرب الأوكرانية منذ 24 شباط/فبراير 2022 حتى الآن وتركيز الغرب على احتواء الكرملين في الأساس قد يثير في بعض القراءات، خصوصًا الصينية منها أن هناك إمكانية لما يسمى “الانتهازية السياسية” في العلاقات الدولية وانشغال الغرب ومعه الولايات المتحدة بالأزمة الأوكرانية. لكن إذا ما تمعنّا في تصريح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن وكذلك في البيان الذي أصدرته وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” يتضح أن هناك حسمًا نهائيًا لكبح جماح بكين بالتحرك أكثر مما هو قائم اليوم، فضلاً عن أن مسألة رفع منسوب المطالبات والتهديدات لتايوان تنطوي على عواقب وخيمة، الأمر الذي يحمل في طياته تحذيرًا ضمنيًا لبكين وهي الرسالة ذاتها التي وجّهت إلى الرئيس الصيني قبل شهرين عندما اجتمع من بُعد مع الرئيس الأميركي الذي لا يريد أن يغفل عن الصين نتيجة انشغاله بأوكرانيا.
إزاء كل ما تقدّم، يمكن الخلوص إلى أن إدارة بايدن عملت وفق فرضية أن حرب أوكرانيا تمثل فرصة ذهبية لإعادة تكريس زعامة أميركا للعالم عبر إعادة نفخ روح جديدة في كيان حلف شمال الأطلسي، ما يشي بالعودة إلى حقبة تسعينات القرن الماضي.
لكن ما بات ملاحظًا أن العلاقات الدولية تتحرك اليوم شرقًا، سواء نحو بكين أو موسكو أكثر منها غربًا، وبات العالم يعيش مرحلة البحث عن توازن قوى جديدة بين ثلاثة أقطاب رئيسية: الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين وبدرجة أقل الاتحاد الأوروبي، بحيث تفتقد إلى التناغم الكلي والعمل جارٍ على إعادة تركيب حلفَيْن رئيسيَيْن: روسيا والصين كما يعتقد البعض من جهة، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كما يرى مؤيدو حلف شمال الأطلسي من جهة ثانية.
لا زال العالم يرزح تحت رحمة رباعية دولية يقترب إثنان منها بنسب معينة فيما يبتعد الطرفان الآخران، بمعنى أن الصين لم تؤكد أنها العضو الذي يعوَّل عليه في الحلف الشرقي، كذلك الحال بالنسبة لأوروبا في الحلف الغربي، التي وإن اقتربت من أميركا، لا تزال لديها خياراتها الاستراتيجية.