ثقافة ومنوعاتشباب 20
الأكثرية الساحقة، تسحق مَن بالضبط؟
محمد الشيخ -المانيا
كثيراً ما نصادف مصطلح ” الأكثرية الساحقة ” وخصوصاً في الحياة السياسية ، و المجتمعية ، و لكن لو تأمَّلنا قليلاً بكلمة ” ساحقة ” ، ماذا تُحرِّك في الوعي الجمعي لهذهِ الأكثرية العددية ؟
إنها مُصَمَّمة لسحقِ الأقلِّيات ، لسحقِ المعارضة ، لسحقِ المبدعين الخارجين عن المألوف
والوحيدين هناك ، المُنزوين بعيداً عن القطيع ….
أنا شخصياً أنصحُ الأكثريةَ ” الساحقة ” أنْ لا تتباهى بهذهِ الصفة ، أقصد صفة السحق ، لأنَّ هذا يؤكد المؤكَّد أنَّ البشريةَ لم تغادرْ الغابةَ قط ، بل أنَّها صنعت لنفسها غابةً أخرى أكثر توحُّشاً و تعقيداً .. حيثُ البشر يقتلونَ الحيوانات ليأكلوا لحومها و يقتلونَ بعضهم لكي يدخلوا الجنة !
● اختراع المظلة
الأعمال العظيمة قامت دائما ً على أكتاف المضطهدين المجانين المنبوذين .. لم يكن يوما للأكثرية دور في التاريخ سوى الهمجية و التخريب ، و من ألطف العبارات التي نألفها أن السياسة هي “فن الممكن” ، و لكن لا أحد يجرؤ أن يعري السياسة ليقول بأنها فن ترويض الأكثرية حيناً و فن إفلات العقال لها حيناً آخر ..
إنها الأكثرية أيتها السيدات و السادة
يقال بأن الذي اخترع أول مظلة في التاريخ لتقيه من المطر ، مشى بها في الشارع وسط السخرية و الازدراء و التصفير من المارة و نال من الإهانات ما لا يقبله عقل و لكن في النهاية تعودت الأكثرية على حمل المظلات و المشي بها في الشوارع تحت المطر …
حتى في قصص الأنبياء .. فعلت الأكثرية الأفاعيل بهم من تنكيل و سخرية و محاولات القتل و قد نجح بعضها فلا يجادلني أحد بأن من صلبوا المسيح لم يكون أكثرية ذلك الزمان ….
إنَّ أسوأَ أنواعِ الأكثرية ، هو الأكثرية الساحقة ، و التي غالباً ما تكون مؤدلجة و مسلَّحة و نَهِمَة بفضلِ تعدادها للوصولِ إلى السلطة ، كي ” تسحق ” الآخرين !
ببساطة لأنَّها أكثرية ساحقة..
بالمناسبة : المدخنون أكثرية ساحقة ، فهل يجب أن يحكم البلد شخص مدخن ؟
اللصوص ، أكثرية ، فهل يحكم البلد لص محترف ؟
الذباب ، أكثرية ، فهل نحتكم للذباب الحائم حول موائد الفقراء ؟
الجراثيم أكثرية ، فهل تستلم السلطة جرثومة مثلاً ؟
الطائفيون و الحمقى .. المتطرِّفون ، الأغلبية الغبية ، الغوغائيون ..كلهم أكثرية !
و هي فعلا أكثرية ساحقة ، تسحقُ الجميع بلحظةٍ من لحظاتِ الانفلاتِ الأمني و الهياج الجماعي .. هؤلاء هم لصوص المتاحف ..هؤلاء هم مُطلقوا النار في الأعياد لتتحوَّلَ إلى مآتم و يتحوَّلَ نجاحُ أحدهم في الشهادة الإعدادية إلى عزاء يجعلُ المُعزِّين يتلعثمون ، وكيف ينطقون أمام هذا ” الهياج ” الشعبي و التوحُّش الجماهيري و التَّعَفْرُت النضالي الكفاحي المسلح !
مَن أعطى هؤلاء السلاح ؟ و ضدَّ مَن بالضبط ؟
● حرائق الجزائر و الأكثرية الساحقة
منذُ فترة ليست ببعيدة انقضَّت هذهِ الجموع الهائجة على أحدِ الشُّبان المتطوعين أثناءَ حرائقِ الجزائر المؤسفة و المؤلمة ، فقتلوه بكلِّ وحشية و أحرقوه ظنَّاً منهم أنَّهُ هو من افتعل الحريق ، و بعدَ تَكَشُّفِ الحقيقة ندموا !
قال ندموا قال !
هم أنفسهم بل أجدادهم من قاموا بتقطيع أيدي الكاتب الشهير ( ابن المُقَفَّع ) و قاموا بشوائها
وأجبروهُ على أكل يديهِ اللتين كتبَ و ترجمَ بهما أيقونةَ الأدبِ العالمي ( كليلة و دمنة)
هم أنفسهم من قتلوا الفيلسوف الشهير ابن عربي
و هم و هم و هم …
على هذهِ الكتلةِ الاجتماعيةِ الصلبة يُراهن السياسيون كي يربحوا السلطة، وعلى هؤلاءِ المغفَّلين المتوحِّشين المستعدِّين لزهقِ الأرواح ، تركِّزُ وسائلُ الإعلام و تُنفَقُ المليارات على المراسلين و الموظفين و الصحفيين والمخرجين فيقدِّمونَ لنا التغطية المباشرة طوال اليوم و الاحترافَ الإعلاميَ بحق وعلى طبق من ذهب ، و مجاناً للجميع !
ولكن لماذا ؟
● الجواب
لكسبِ قلوبِ وعقولِ الغوغائيين لأنَّهم هم من يقلبونَ الموازين في أيِّ بلد لو هاجوا لا سمحت الآلهة !
يقولُ أستاذُ علمِ الاجتماع الدكتور علي الوردي أنَّ المتطرِّفين عبرَ التاريخ هم مَن يربحونَ المعركة ! و للأسف طبعاً …
و يقول الفنان زياد الرحباني: ( السنة إلن أميركا و الشيعة إلن روسيا ، و الملحدين اللي متلي إلن الله ! )
● علماء الاجتماع ومدّعو التدين
في العالمِ المتحضِّر أو العالم الأول ، يشتغلُ علماءُ الاجتماع ليلاً نهاراً ، لتهذيبِ الأكثريَّةِ الساحقة و نزعِ أنيابها و تحويلها إلى أكثريةٍ مثقَّفة و أكثرية هادئة تخطو باتِّزان مُتقن و تقرِّر مصيرَ البلد بالانتخابات … و لكن تبقى الحركة الغوغائية موجودة و لكنَّها منبوذة مجتمعياً ، فعلى سبيل المثال و منذ سنوات خرجت مظاهرة غوغائية هزيلة في برلين تطالب بترحيل اللاجئين ، فخرجت بنفس اللحظة مظاهرة حضارية هادئة بعشرات الآلاف تطالب باحترام الدستور و حقوق الإنسان و هذا ما يستحق التأمل !
ليس بعيداً عن ألمانيا ، و تحديداً في جارتها النمسا صاحبةِ التاريخِ العريق ، و عندما علموا بأنَّ هتلر سوفَ يدخلُ بجيشهِ النازي ليحتلَّ البلاد ، قامت مجموعة كبيرة من المتطوعين النمساويين بتنظيمِ أنفسهم و طلبوا من السلطات فتحَ متحفِ فيينا لهم فتأخذُ كلُّ عائلة قطعةً أثرية و تحافظ عليها في المنزل خشيةَ أن ينهبَ النازيون المتحف و الذي يعني للنمساويين الكثير ، و بعدَ انتهاءِ الحربِ العالميةِ الثانية قاموا بإعادةِ القطعِ الأثرية كاملة دونَ نقصان و هكذا جنَّبوا تاريخَهم و وجدانَهم الجمعي مخاطرَ النهبِ و التحطيمِ و السرقة و كانت هذهِ الفكرة من أجمل تجلِّيات التحضُّر عندما تصبحُ الأكثرية متحضِّرة ..
● مقارنة مؤلمة
أمَّا بعدَ احتلالِ العراق ، فحدِّثْ و لا حَرَج عن ماذا حصلَ بمتحفِ بغداد و للقارئِ اللبيب نتركُ المقارنة و تأمُّل العِبرة !
● أم كلثوم و الغوغاء
عندما زارت كوكب الشرق أم كلثوم سوريا للمرة الأولى في حياتها كان ذلك عام 1931 و بدعوة من الحكومة السورية آنذاك..
لقد استقبلت استقبالا ً حافلا ً على المستويين الرسمي و الشعبي و كان الدمشقيون في معظمهم تواقين للقائها ، و لكن عندما وصلت الفندق لتستريح من السفر و تتهيأ للحفل الكبير ، كان بانتظارها شبان متدينون غوغائيون حاولوا رشقها ب نترات الفضة بهدف حرق وجهها كما حاولوا إشعال النار في ثوبها و هم يصرخون بها أن تحتشم و تلبس الحجاب !
طبعاً هؤلاء المتخلفون يعتقدون قطعاً ب تحريم الغناء و أن سماع الموسيقا حرام ، و هم أنفسهم من طالبوا بإعدام نزار قباني شنقاً في إحدى ساحات دمشق ، فهل تغير الآن المجتمع العربي و هل اختفت أم تفاقمت هذه الظاهرة المتوحشة؟
نترك الإجابة للقارئ اللبيب !
هل سيقول لي أحدكم أن هذه ليس أكثرية ساحقة ؟ و لكن الجواب هو أن هذه النزعة ذات الجذور الدينية هي موجودة في دواخل و أعماق معظم المتديّنين حول العالم و دعونا نعترف بذلك .. فعندما اندلعت الأحداث في سوريا عام 2011 تم الاشتغال بعناية فائقة على النزعة الدينية فتحول النضال السلمي و المطالب المحقة بالحرية الى نزاع مسلح أكل الأخضر و اليابس و انتقلنا بقدرة قادر من حرية “التفكير” إلى حرية “التكفير” في هذا الشرق الحزين و الشهيد ..
● حرب أكتوبر و لحظة حضارية يبنى عليها
و كي لا نجلدَ أنفُسَنا ، و ليسَ هذا هدفُ المقال ، دعونا نتذكر أنَّهُ خلال حربِ تشرين (أوكتوبر) عام 1973 بين سوريا و إسرائيل ، لم تُسجَّل في سوريا و لو حادثة جنائية واحدة طيلةَ الحرب و لا حتَّى سرقةً صغيرة ، و هذهِ ظاهرة يُبنى عليها فشعوبنا تضجُّ بالحياة و لكنَّ الظروفَ السياسيةَ القاسية أخرجت منها هذهِ الأكثرية الساحقة والماحقة التي لا تفهم ولا تستفهم لأننا و بكلِّ أسى حصيلةَ احتلالاتٍ و انتداباتٍ عملت كلها على تعميقِ التخلُّف و الخرافة في العقل العربي المربوط على باب العالم الثالث، حيثُ لم تقمْ للعرب قائمة منذُ انهيارِ الدولةِ العباسية.
على الأقل حتى الآن …
الكاتب: محمد الشيخ
دبلوم في الجبر التجريدي
مقيم في ألمانيا