آخر خبرقالت الصحف

لافروف في مسقط بعد الصين والجزائر، التاريخ والمُستقبل

د.عبدالله باحجاج

عندما كنت أتابع المحطات التي زارها سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي قبل زيارة لسلطنة عمان يوم الخميس الماضي، تساءلت هل هناك من روابط بينها؟ قبل الجزائر كانت محطته بكين، وبعد الجزائر مسقط، ثلاثة عواصم قد دفعت موسكو إلى إرسال وزير خارجيتها إليها، وهي في حربها على أوكرانيا للشهر الثالث على التوالي، والكل يتساءل لماذا مسقط؟ ولماذا في هذا التوقيت؟ وتساؤلاتهم منطقية، فمعروف عن بكين بأنها الحليف الوجودي لموسكو، وتؤسس الجزائر الآن بعدها الاستراتيجي الدولي مع موسكو عبر شراكة استراتيجية جديدة سيتم توقيعها قريبا تحت مسمى «الشراكة الاستراتيجية المعمقة».

وهذه الشراكة هي عبارة عن وثيقة تحدد بدقة أهداف ومجالات التعاون بين البلدين في قطاعات عديدة، مع تحديد آجال زمنية لتنفيذها تمتد غالبا بين 4 و5 سنوات، وقد تمخض عنها وهي لا تزال كمشروع، قرارات وصفقات نفذها الجانبان، خاصة في مسألة الديون المستحقة لموسكو لدى الجزائر، وشراء كميات من الأسلحة الحربية المتطورة على رأسها سرب مقاتلات «سوخي 28» الروسية، وهذا يوضح لنا مستقبل العلاقات الجزائرية الروسية التي تؤسس من رحم الحرب على أوكرانيا.

واللافت أن لافروف لم يبحث في محطته في الجزائر قضايا معاصرة متوقعة مثل الغاز الجزائري وإمكانية استفادة أوروبا منه، وإنما جل تركيزه كان على مستقبل العلاقات الثنائية، فهل يمكننا أن نسقط النهج نفسه على زيارة لافروف لمسقط خاصة وأن سلطنة عمان قد عرضت بيع نفطها وغازها لأوروبا بعد ما رفعت من مستويات إنتاجها منهما؟

تحتمل هذه الزيارة الأجلين الزمنيين «الآني والمستقبل، وهى تتعلق لمرحلة ما بعد الحرب على أوكرانيا، فهذه المرحلة ستشكل خارطة الحلفاء الدوليين والإقليميين من منظور الصديق أو العدو، حسب مواقف الدول من طرفي الحرب، من هنا تعمل الدبلوماسية الروسية ذكاءها في تأسيس هذه المرحلة أثناء الحرب، وتستوقفني هنا إشادة لافروف بموقف سلطنة عمان من هذه الحرب، ومطالبته لها بالعمل على عودة سوريا عربيا، ومعروف أن مسقط ليست كغيرها من الدول التي تقربت كثيرا من موسكو قبل الحرب بعد التراجع الأمريكي عن المنطقة، ووراء تقربها الجديد برغماتية تغلب على السياسة، تكمن في الاستفادة من القدرات العسكرية والإمكانات النووية الروسية التي أصبحت تقدمها موسكو لكل من يطلبها، بخلاف مسقط التي اتخذت موقف الحياد من الحرب دون برغماتية أو لحسابات تاريخية إبان الحقبة السوفييتية.

وهذا يشكل لمسقط عامل قوة في بناء علاقاتها الجديدة مع موسكو، والتساؤل الذي يشغلني ليس في ماذا تريد موسكو من مسقط ؟ وإنما ماذا تريد مسقط من موسكو؟ وهو هل تملك مسقط رؤية لمرحلة ما بعد الحرب الروسية على كييف؟ والتساؤل الأخير يبنى على التراجع الأمريكي في الخليج، وتخليها عن حلفائها التاريخيين في أشد الحاجة إليها، وانكشاف عمق أمنهم من جماعة مسلحة، وكذلك مؤشرات التحولات الأوروبية عن أمريكا، واحتمالات أن يسفر عن الحرب على أوكرانيا تفاهمات سياسية وأمنية روسية أوروبية ذات طابع مؤسسي بعيدا عن حلف الناتو.

وهنا ينبغي أن نضيف عاملا آخر ومهما كذلك، وهو ما يحدث الآن لبريطانيا العظمى من تراجع نفوذها العالمي، ومن إمكانية تقليص حجمها بعد فوز حزب شين فين الإيرلندي القومي للمرة الأولى منذ 100 عام في الانتخابات المحلية على خسارة قاسية للحزب الموالي للندن، وكذلك ما يحدث في داخلها من استياءات اجتماعية متصاعدة بسبب موجة الغلاء، فلندن تشهد الآن صدمات معيشية لكل البريطانيين تؤثر على مقومات حياتهم البشرية، كالطعام مثلا.. إلخ.

وفي ظل هذه المتغيرات الكبرى، لا ينبغي للدول الست دون استثناء أن تثق في أي حليف تاريخي مهما كانت الاتفاقيات معه، والشواهد تاريخية ومعاصرة، فلو فتحت نافذة صغيرة جدا على التاريخ، فهنا تساؤل بسيط في مفرداته، وعميق دلالته، لابد أن يطرح وهو: من تآمر على تفكيك الإمبراطورية العمانية؟ كما لو فتحت نافذة معاصرة مماثلة، فأمامنا انسحاب واشنطن/ بايدن من الخليج، تاركة حلفائها يواجهون المخاطر كما أن ما يواجهه الغرب من تحديات عالمية، قد تؤثر على قيادته العالمية، ومخاطر داخلية قد تؤثر على وحدته، تكفي بإنضاج عدم الثقة فيهم، وترسخ مفهوم الصيرورة التاريخية التي ترفع دولا وتنهي أو تخرج دولا عن العالمية.

من هنا أرى، أن مستقبل المصلحة العمانية في ظروفها الدولية المعاصرة، تكمن في صناعة التوازن الاستراتيجي في علاقاتها مع واشنطن وموسكو، وتتاح لها الآن هذه الإمكانية بصورة مثالية، فمسقط المتجددة تحتاج لموسكو بقدر حاجتها لواشنطن، وتحتاج لكل الفاعلين الإقليميين والدوليين، ولن أكون منحازا إذا ما قلت أن حاجة مسقط لموسكو والصين أكثر من واشنطن، على واشنطن التي حاجتها لمسقط متعاظمة، وتتجدد الآن وفق رؤية استراتيجية من منطلق دور الموانئ العمانية في تعزيز الدعم اللوجستي الأمريكي في المحيطين الهندي والهادي، وكذلك من حسابات اقتصادية أخرى.

ولا يتصور خروج موسكو مهزومة من حربها على أوكرانيا كما تتمناه واشنطن، وكل من يؤسس علاقته بميل جامح مؤثر لأحدى طرفي الحرب وحلفائهما، ستحكم علاقاته الاستراتيجية المستقبلية سلبا أو إيجابا، بمعنى أدق، أن الحرب تؤسس الآن لموسكو وواشنطن منظومة الأعداء والأصدقاء الجدد في العالم، ولكل منهما – أي موسكو وواشنطن – أدواتها في المنطقة التي يمكن أن تستخدمها، فموسكو قد وثقت علاقتها الاستراتيجية مع إيران، وأصحبت طهران مصالحها الاستراتيجية تميل نحو موسكو وبكين، وطهران دولة مجاورة، ومعنا معها حدود مشتركة، كما أن لهما – أي طهران وموسكو- نفوذا استراتيجيا مستداما في اليمن الشقيق المجاور، وهذه أدوات قد تشكل صدوعا إقليمية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا حسب مواقف دول المنطقة منها، كما لواشنطن أدوات في المنطقة، وهى متجذرة وقد تستغلها، وفي كل الأحوال ستستغلها واشنطن مهما منحت من امتيازات وحقوق.. فعلاقاتها مع دول المنطقة قائمة على الابتزاز الاقتصادي والمالي من خلال أدوات سياسية ضاغطة.

والمتأمل في الدبلوماسية الروسية التي تجسدها جولة لافروف الأخيرة، أنها تعمل وفق نسق دولة عالمية كبرى منتصرة في الحرب قبل أوانه، مما يبدو هاجسها الآن يتجه نحو التأطير السياسي لمواقف الدول من حربها على أوكرانيا بهدف كسب حلفاء جدد داخل منطقة الغرب التقليدية.

وأية دولة خليجية لن تكون في مستوى استحقاق الثورتين التكنولوجية والصناعية الرابعة، والاستفادة كغيرها من الإمكانيات النووية للأغراض السلمية، ولن تحقق استراتيجياتها الجديدة إذا ما ظلت تميل ميلا أمريكيا أو غربيا كما كانت طوال العقود الماضية.

وفي الحالة العمانية، فإن مبدأ التوازن بين موسكو وواشنطن القائم على المصالح المتبادلة بما يخدم تحقيق رؤية 2040، هو المسار الذي يحقق لها تحقيق كل غاياتها المعاصرة، ويأمن لها هواجسها التاريخية، فحيادها خلال حقبتها السياسية الجديدة مرتبط بمبدأ التوازن في علاقاتها مع موسكو وواشنطن خاصة في مرحلة ما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وهذا التوازن سيمكنها من التعامل مع بقية القوى العالمية الأخرى بمنطق استدامة المصالح مع استقرار العلاقات، وهذا ينسجم مع موقعها الجيواستراتيجي، ومع توجهاتها الاقتصادية الجديدة، ومع كل الاحتمالات التي ستنجم عن الحرب الروسية الأوكرانية.

ورؤية مسقط ملتقى لكل المصالح العالمية والإقليمية يتحقق من خلال مبدأ التوازن كذلك مع كل الفرقاء بمنطق تغليب المصلحة الوطنية، وهذه البيئة هي التي يمكن من خلالها تحقيق كامل أجندات رؤية عمان 2040، بحمولتها الثقيلة، التكنولوجية والصناعية، لذلك، فهي تتطلب ديمومة الاستقرار في العلاقات وفي المصالح، خاصة وأن هناك مصالح تأسسها مسقط منفردة عن دول المنطقة، بل ومعظم دول العالم، وتحتم هذا النوع من الاستقرار، كالاقتصاد الهيدروجيني، وقد أطلقت تحالفا وطنيا من «13» شركة حكومية وخاصة لترسيخ مكانة البلاد على خارطة إنتاج الهيدروجين الأخضر واستخداماته عالميا، وتقول المصادر إن مسقط تخطط لبناء واحد من أكبر مصانع الهيدروجين الأخضر بالعالم، وستصبح دولة مصدره له لأوروبا وآسيا.. من هنا يتعاظم مبدأ التوازن لمسقط كخيار استراتيجي عالمي وإقليمي، تمليه عليها مصالحها الاقتصادية والاجتماعية الجديدة.

المقال من صحيفة عُمان على الرابط التالي :

https://www.omandaily.om/أفكار-وآراء/na/زيارة-لافروف-لمسقط-التاريخ-والمستقبل

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button