الانتخابات النيابية اللبنانية: اليوم التالي
د.ناصيف حتّي
كما كان متوقعاً، لم تأتِ الانتخابات النيابية، رغم أهمية هذا الاستحقاق، في لحظة صعبة جداً ومفصلية في تاريخ لبنان، بالتغيير المنشود من حيث حجم هذا التغيير، مع انها وجهت رسالة، مهما كان الاختلاف حول أهميتها وتأثيرها، تؤكد ضرورة ولوج باب الاصلاح الشامل لإنقاذ المركب اللبناني من الغرق كما حذّرنا وحذّر غيرنا مراراً. فشدّ العصب السياسي بعناوينه الكبرى الجذابة وتلاوينه في العملية الانتخابية والصراع السياسي القائم بكل جوانبه وعناصره وأدواته ورهاناته الخارجية والداخلية، لن يخفف سرعة الانهيار الذي تزداد سرعة حصوله كل يوم كما تزداد كلفة عملية الانقاذ مع كل يوم تأخير. فالانتماءات العقائدية الهوياتية، مذهبية وطائفية وغيرها، والانتماءات السياسية التقليدية وكذلك الزبائنية، كلها عناصر ما زال وزنها كبيراً في السياقات الانتخابية، مهما كان الغطاء الذي تتغطى به .
لبنان في حقيقة الامر تحكمه جدليتان: الاولى جدلية الخارجي والداخلي. فتاريخ الازمات والحروب والتسويات في لبنان يدل كم ان العنصر الخارجي وازن في الحياة السياسية ولو تحت مسميات وعناوين مختلفة لا تحجب هذه الحقيقة، والتركيبة السياسية اللبنانية جاذبة لهذا التدخل. كما ان التفاهم الخارجي بين الاطراف المؤثّرة في مرحلة معيّنة يساهم في صنع السلم الداخلي واحتواء الخلاف وتجميده أو خفضه. ولكن تبقى هشاشة الاجتماع اللبناني بانتماءاته المتناقضة والمتصارعة عنصراً جاهزاً لتأجيج الصراع. تزيد في ذلك طبعاً الجغرافيا السياسية للبنان الجاذبة ايضا للتدخل في لعبة القوة والنفوذ في المنطقة.
الجدلية الثانية هي جدلية السياسي والاقتصادي ومعه المالي بالطبع. فلم تعد سياسة المراهم الاصلاحية تفي بالغرض، بل صار من الضروري اجراء عملية اصلاحية هيكلية، الامر الذي تدعو اليه كافة الاطراف الخارجية من منظمات دولية ودول تودّ مساعدة لبنان. وللتذكير فان بعثة صندوق النقد الدولي قد اشارت في بيانها، بعد انتهاء المشاورات مع الجانب اللبناني في بيروت، والتوصل الى ما يُعرف بـ”اتفاق موظفين” staff agreement، الى ضرورة اجراء اصلاحات عديدة تتناول ضمن امور اخرى القطاع العام بهدف اعادة بناء الاقتصاد وتعزيز الحوكمة والشفافية، وكذلك زيادة الإنفاق الاجتماعي والاستثماري، الى جانب مقترحات اصلاحية اخرى يُفترض العمل بها للحصول على التسهيلات المالية التي هي في حدود ثلاثة مليارات دولار. فالنجاح في اجتياز هذا “الامتحان” هو بمثابة “الفيزا” كما اعلن اكثر من طرف دولي لمساعدة لبنان. كما ان التقرير الذي اصدره المقرر الخاص المعني بمسألة الفقر المدقع وحقوق الانسان لمجلس حقوق الانسان ذكّر، مَن تناسى أو نسي، بأن 80 بالمئة من السكان يعيشون في دوامة الفقر، وان العملة الوطنية فقدت اكثر من 95 بالمئة من قيمتها .ارقام يعرفها كثيرون ويعاني من وطأتها اللبنانيون. وللتذكير ايضا فان استطلاعات للرأي اجريت أخيرا تشير الى ان 6 بين كل عشرة اشخاص يتمنون مغادرة لبنان. هذه بعض الارقام التي كان لا بد من التذكير بها للدلالة على حجم الازمة التي يعيشها لبنان والتي تدفع بسرعة نحو الانهيار المجتمعي السريع. التباطؤ ومحاولات تلافي “تجرّع سُم” الاصلاحات الهيكلية الشاملة من طرف الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان لانها تهدد مكتسباتها ومصادر قوتها، يزيد حدة الازمة ويعجّل الانهيار بكل تداعياته. ومن نافل القول انه لا يمكن اجراء الاصلاحات الاقتصادية والمالية المطلوبة اذا لم تواكبها اصلاحات سياسية تهيىء المناخ وتسهل الاصلاح الاقتصادي والمالي وتحصّنه .
يحصل ذلك فيما يدخل لبنان، غداة الانتخابات النيابية، في جدول زمني ضاغط من الاستحقاقات الاساسية: اولها تشكيل حكومة جديدة (البعض يتحدث عن حكومة تكنوقراطية، والبعض الآخر عن حكومة تكنوسياسية)، باعتبار ان الحكومة الحالية تصبح مستقيلة حكماً يوم 21 من الشهر الجاري، مع بدء ولاية المجلس النيابي الجديد. وكذلك يدخل لبنان مرحلة “صراعات” الانتخابات الرئاسية والعودة الى جدلية الخارجي والداخلي في هذا الامر، كما علّمتنا مجمل التجارب السابقة في هذا الصدد.
فهل ستُشكل حكومة جديدة أم نبقى مع حكومة تصريف اعمال، وربما نذهب الى توسيع مفهوم تصريف الاعمال كلما طال الوقت نظراً الى الحاجة لذلك في ما يتعلق بالقرارات المطلوبة ومعها التفاوض مع الاطراف الخارجية المعنية قبل تشكيل الحكومة الجديدة المرتبطة ارتباطا وثيقا بالانتخابات الرئاسية. حكومة قد تتولى ايضا صلاحيات “ادارة البلاد” اذا حصل فراغ رئاسي مع عدم انتخاب رئيس جديد بحسب المواعيد الدستورية في غياب التفاهمات المطلوبة لذلك ضمن جدلية الخارجي والداخلي. واخيرا وليس آخرا البعض يتحدث، اذا ما حصل هذا الفراغ، عن سيناريو شبيه بسيناريو “اتفاق الدوحة” عام 2008 لانتخاب رئيس جديد بعد حصول توافق بين الاطراف الفاعلة خارجيا وبالتالي داخليا على ذلك. والسؤال في هذا الصدد: كم ستطول فترة الانتظار في ظل تزايد الظروف الدافعة للانفجار والانهيار؟ وفي خضم ذلك كله يلوّح البعض بالدعوة الى “طائف جديد” أو الى “مؤتمر تأسيسي” وهو أمر مستبعد لان مجمل القوى الخارجية والداخلية ترفض ذلك.
المطلوب اليوم في خضم المخاطر التي يعيشها لبنان عقد طاولة حوار وطني ليس حول عناوين اصلاحية فضفاضة، بل بشأن بلورة برنامج عمل اصلاحي شامل وعملي يقوم على اجندة زمنية واضحة وعلى احترام الاستحقاقات الدستورية كلها. واكثر من ضروري ان تواكب هذا المسار وترعاه المنظمات والاطراف الدولية التي تعمل لإنقاذ لبنان وذلك قبل فوات الاوان. فالجميع خاسر اذا ما غرق المركب اللبناني. والتفاهم الخارجي المطلوب لن يكون مفيدا اذا ما تأخر حصوله كثيرا. لذلك تبقى المسؤولية الاولى على عاتق اللبنانيين كافة في ما يتعلق بالمبادرة، مبادرة الانقاذ الوطني. فهل نتخذ القرار أم نبقى في غرفة الانتظار بانتظار السباق بين تفاهم الكبار أو حصول الانفجار؟
الكاتب : د.ناصيف حتّي
وزير خارجية لبناني سابق، وسفير سابق لجامعة الدول العربية في أوروبا وكاتب سياسي
هذا المقال من صحيفة النهار اللبنانية على الرابط التالي:
https://www.annahar.com/arabic/authors/16052022080037368