اغتيال شيرين أبو عاقلة: تغطية الحقيقة بغربال
مرح إبراهيم ـ باريس
كانَ هذا الصّباحُ مظلمًا وحزينًا، إذ استيقظ العالمُ العربيّ على خبر استشهاد المراسلةِ والصحفيّةِ المناضلة شيرين أبو عاقلة في جنين، في الضفّة الغربيّة، بعد مرورِ عامٍ على تدمير برج الجلاء في قطاع غزة، والذي كان يضمّ مكاتب لمؤسسات إعلاميّة، منها شبكة الجزيرة. أشعلت صورُ شيرين أبو عاقلة المنصّاتِ ومواقعَ التواصل الاجتماعيّ، مُرفَقةً بكلماتٍ مكتوبةٍ بغضبٍ وحزنٍ عميقَين. ذاكَ الوجه الذي أَلِفهُ كلّ عربيٍّ بحثَ عن الحقيقةِ من قلبِ الحدث، ذاكَ الوجهُ الذي حَفَر في الوجدان حتّى ارتسمَ في ملامحه تاريخُ القضيّة.
وراء البحار، تتحوّل بعضُ القضايا إلى أخبارٍ عابرة، إلى عناوينَ منكفئةٍ تضعُ الحقائقَ المخيفةَ محلّ شكّ، في حينِ ينيرُ الإعلام بغزارةٍ على ما يشاءُ من أحداثٍ، بغيةَ شيطنةِ جهةٍ وتأليه أخرى، أو حماية طرفٍ وإدانة آخر.
من يقرأ بعضَ صحفِ الغرب اليوم، يرى ثقبًا في الفضاء الإعلاميّ : فيما تجاهلت بعض وسائل الإعلام الخبرَ الصّاعق، نقلته وسائلُ أخرى بمسافةٍ حاولت أن تكونَ حياديّة حيالَ حيثيات مقتل مراسلة الجزيرة، كصحيفة ليبراسيون الفرنسيّة، لكنّ أغلب العناوين أفادت بثقة العارف بأن شيرين أبو عاقلة قد أصيبت برصاصة خلال “اشتباكات” بين الطّرفين، الفلسطينيّ والإسرائيليّ، تفاديًا لإدانة الطرف الإسرائيليّ بصورةٍ مطلقة، كصحيفة نيويورك تايمز الأميركيّة، التي نقلت عن الجزيرة (نقلًا محوّرًا) مقتل مراسلتهم “جرّاء مواجهات بين الجيش الإسرائيليّ ومسلحين فلسطينيين”، أو صحيفة لوموند الفرنسيّة، التي كتبت في إحدى عناوينها أن “الجيش الإسرائيلي متّهم بقتل إحدى مراسلات الجزيرة”.
في الوقت الذي صوّرَ مصوّر لدى فرانس برس إطلاقَ النار الإسرائيليّ وأكّد المراسل الفلسطيني علي السمودي الذي كان بجانب شيرين وأصيب بطلقةٍ قبلها بلحظات، أنّ الجيش الإسرائيلي قد استهدفَ الصحفيين والمراسلين وهم يرتدون سترات المراسلين المكتوب عليها عبارة Press، قاتلًا شيرين بـ”دمِ بارد”، أنكرت المصادرُ الإسرائيليّة مسؤوليتها، متّهمةً “رجالًا مسلّحين فلسطينيين” (بالإضافة إلى مصادر أخرى نقلت عن الجهات الإسرائيليّة تواجد مسلحين فلسطينيين غير متمرّسين، ينتمون إلى جهات إرهابيّة)، الأمر الذي نفاه السمودي، مؤكدًا عدم تواجد مسلّح للفلسطينيين خلال العمليّة. وفقَ صحيفة نيويورك تايمز، تبقى “الظروف المحيطة بمقتل شيرين أبو عاقلة غير واضحة”، كما ارتأت جهات غربيّة أنه من الضروريّ اللجوء إلى تحقيقٍ رسميّ ومستقلّ في القضيّة.
أمام العناوين المنكفئة التي يحاولُ البعضُ منها طمسَ الحقيقة، فقد علّق الكثيرُ من القرّاء والناشطين على انتقاء العباراتِ والكلماتِ كعنوان “الجيش الإسرائيلي متّهم” أو نقل صحيفة نيويورك تايمز للحدث على أنه جاءَ نتيجة “اشتباكات” أو “موت شيرين أبو عالقة” التفافًا حول كلمة مقتل، بينما يؤكّد زملاء شيرين أبو عاقلة أنه كان استهدافًا للإعلاميين وقتلًا متعمّدًا.
أمّا عن “حجّة التحقيق” الذي اقترحتهُ الجهات الإسرائيليّة وطالبت به جهات غربيّة رسميّة معبّرة عن أن الحدث “صادمٌ بعمق”، فيفيد ناشطون أنّ التّحقيق بمصدر رصاصة قَتلت مراسلةً تغطّي “الجرائم الإسرائيليّة المتواصلة” (في جنين المحتلّة) يشكّل حجّةً فاقدةَ المضمون مسبقًا.
بعد انقضاءِ سنةٍ على أحداث سيف القدس وقطاع غزة وثورة الشباب الفلسطينيّ، وبعد عقودٍ من الصراع حولَ قضيّة لا تموت، غابَ اليوم وجهً من رموز القضيّة، ناضَل في سبيلِ الحقيقة، فكان غيابُهُ عينُ الحقيقة التي لا يمكنُ تغطيتها بغربال.
الكاتبة: د.مرح ابراهيمة
باحثة جامعية في علم اللسانيات، ومُترجمة دولية واعلامية