سامي كليب:
سيُصاب الكثير من اللبنانيين بخيبة أمل كبيرة بعد الانتخابات، حين يكتشفون أن كل صراعاتهم الداخلية والشعارات الرنّانة التي أطلقوها في خلال الحملة الانتخابية، تحطّمت كالمعتاد على أعتاب التطورات والصفقات الإقليمية والدولية، وسيكتشفون كذلك أن بلادهم، وللأسف، ما زالت رُقعة بسيطة من الشطرنج في لُعبة الآخرين.
في المعلومات أولاً:
- أن المفاوضات الإيرانية السعودية قطعت شوطا كبيرا منذ الجولة الخامسة الأخيرة في العراق، وأن مسألة استعادة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارتين في الرياض وطهران باتت مسألة وقت، وربما يكون الوقت أقصر من المتوقّع، فما بقي هي مسائل تقنية ولوجستية.
- أن الخطوط بين السعودية وسوريا فُتحت، وأن ثمة مفاجآت قريبة على هذا الصعيد بعد فترة قصيرة، تلي المفاجأة الكبيرة التي أحدثتها زيارة الرئيس السوري بشّار الأسد الى الامارات. لو حصل هذا قريبا فالأمر يعني تطورا هائلا خصوصا بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى الرياض، وبعد رفع الأمير محمد بن سلمان مستوى التحدي لواشنطن في الأشهر الماضية. لعلّ تغيير وزير الدفاع السوري ومرسوم العفو الرئاسي اللافت في سورية ليسا بعيدين عن هذه التطورات.
- أن استعدادات دولية وعربية تجري على نحو حثيث، وفي مقدمها المساعي الفرنسية لوضع أسس إعادة صياغةِ وثيقة سياسية لُبنانية تتعلق بمستقبل النظام وتركيبته وفق حوار وطني جامع. ومن المنتظر ظهور بواكير ذلك في الفترة القائمة بين الانتخابات التشريعية والرئاسية اللبنانية.
- أن مسألة ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لُبنان وإسرائيل عائدة الى الواجهة، مع كل ما ستفرضه من وقائع جديدة على الأرض بعيد الانتخابات، لأنها مرتبطة عضويا بفتح بعض الخزائن المالية الدولية والعربية أمام لُبنان.
في التحليل ثانيا:
انتشر في لُبنان منذ ارتفاع حرارة الانتخابات النيابية، شعارُ ” سلاح حزب الله والاحتلال الإيراني”. كاد يحجب أي برامج انتخابية أو شعارات أخرى. قابَلَه سعيٌ حثيث من قِبَل الحزب وحلفائه لتخوين رافعي هذا الشعار والقول إنهم يعملون لأجندات خارجية هدفها القضاء على المقاومة.
إذا صدقت بعضُ التوقّعات والدراسات والاحصائيات الانتخابية، فإن مقاعد الثنائي الشيعي محفوظة بالكامل، وإن السعي الآن يتمحور حول مساعدة حلفاء الحزب انتخابيا. هذا يعني أن الثنائي سيكرّس شرعية شعبية وتشريعية بعد 15 أيار المُقبل، حتى ولو حصلت بعضُ الاختراقات من الحراك المدني. وهي شرعية مطلوبة إقليميا ودوليا أكثر مما هي مطلوبة محليّاً.
إذا حصل هذا، كيف سيكون الوضع غداة الانتخابات؟
هنا يبرز رأيان:
- يقول أولهما إن رفع شعار ” سلاح الحزب والاحتلال الإيراني” سيُصبح قاعدة المرحلة المُقبلة مهما كانت نتيجة الانتخابات، وستتبلور كتلة نيابية تضم القوات اللبنانية التي قد تُحسّن مواقعها هي الأخرى في هذه الانتخابات، وشخصيات سُنيّة مناهضة للحزب، وبعض الأطراف الأخرى وبينها نوابٌ من الحراك المدني. هذا يعني أن ما سيأتي بعد المرحلة الانتخابية يشي بوضع مُقلق خصوصا إذا ما حصلت هذه الأطراف المناهضة للحزب على دعم خليجي ودولي لرفع وتكثيف حملاتها.
- يؤكد ثانيهُما، أن الشعار سينتهي بعد فترة من الانتخابات، ذلك أن ” انتفاضة 17 تشرين 2019″ أدت مُبتغاها، بحيث أنها هزّت العصا لمعظم الطبقة السياسية وبينها الحزب، وأنذرتها بالأسوأ، وهذا ما كان مطلوبا بالضبط لإقناع هذه الطبقة بالذهاب صوب تنازلات وإصلاحات في الداخل وترسيم حدود وضبط المعابر وتوسيع قاعدة نشر الجيش جنوبا وشمالا وشرقا. ويقول أصحاب هذا الرأي الثاني، إنه لو كان المطلوب أكثر من ذلك، لكانت القوى الإقليمية والدولية لعبت دورا أكبر وأهم في توحيد لوائح المعارضة والحراك المدني، وتشكيل سدّ أكثر مناعة بدل التشتت الحالي.
لو وسّعنا نطاق التحليل أكثر، لوجدنا أن الانفراجات الإقليمية والتي تجري بمعزل عن توقيعٍ قريب للاتفاق النووي بين إيران والدول الخمس أو عدم توقيعه أو تأخيره، تتطلب العمل مع كل الأطراف اللبنانية في المرحلة المُقبلة وفي مقدمها حزب الله نفسه.
بمعنى آخر، إن ترسيم الحدود والاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتمرير الإصلاحات ووضع أسس الحوار الوطني المُقبل والانتخابات الرئاسية، تتطلب في المرحلة المُقبلة توافقا وطنيا وليس صراعات. ولذلك سيكون حزب الله وحلفاؤه من جهة، والقوات اللبنانية والأطراف السُنيّة التي ستفرزها هذه الانتخابات وحلفاؤهما من جهة ثانية، مُتسلّحين جميعا بشرعيات شعبية وتشريعية (ولو بِنسَبٍ متفاوتة) ومستعدّين للشروع بحوار وطني واسع برعاية إقليمية ودولية (على الارجح فرنسية)، لإعادة صياغة قواسم مُشتركة قبل وبعد الانتخابات الرئاسية.
من الصعب جدا، لا بل من المُستحيل، أن تتمرّد الأطراف الداخلية على التسويات الخارجية، خصوصا إذا شملت هذه التسويات كلا من السعودية وإيران والامارات وسورية ومصر وفرنسا، لكن من الصعب كذلك تخيّل أن كل الأمور قابلة للحل بين ليلة وضحاها.
ما تقدّم يعني، أنه في زمن الانفراجات على خط السعودية مع كل من دمشق وطهران، يُخشى أن تتحرّك الأوضاع اللبنانية قبيل وخلال وبعد الانتخابات في اتجاهات تصادمية، ليس للعودة الى منطق الحرب البائدة، وإنما لتحسين شروط التفاوض عند هذا الطرف أو ذاك، أو لتخفيض سقف المُغالاة بالربح والخسارة عند معظم الأطراف. ولذلك ثمة من ينصح في الوقت الراهن، بعدمِ محاولة كسرِ أي طرف مركزي من الطوائف، أو انهاء فريق سياسي، تفاديا للانزلاق الى مغامرة خطيرة، وأنه من الأفضل التواضع من قِبَلِ كل الأطراف كي لا تنحرف الأمور عن خطوطها الحمراء. هذا بالضبط ما حرّك منذ فترة وسطاء يعملون بعيدا عن الأضواء على أكثر من خط داخلي لإعادة وصل بعض ما انقطع بين بعض الأطراف.
هل تحصُل مفاجآت إذاً في ما بقي من وقت قبل الانتخابات أو بعدها مُباشرة؟ ربما. وقد يبدأ بعضها مع نهاية الأسبوع الحالي. وبعضها الأهم في الأسابيع المقبلة، فالصيفُ اللُبناني متحرّك في كل الاتجاهات وثمة متضرّرون سيحاولون تغيير مجاري الرياح، وليست الخطط الإسرائيلية بعيدة أذا ما رأت إسرائيل أن الأمور جنحت كثيرا لصالح إيران، رغم كل ما يُحكى عن دور اماراتي في محاولة إعادة فتح مفاوضات سورية إسرائيلية.
لا شك ان لُبنان يمرّ حاليا في مخاض صعب، لكن كلمة السرّ لن تكون أبدا داخلية حتى ولو تحرّك البعض في الداخل لعرقة الأمور عبر بعض التصعيد. ففيما اللبنانيون يتلهّون بصراعاتهم وشعاراتهم الانتخابية الوهمية، ثمة من يرسُم لهم خططا في الخارج….وهذا الخارج لا يهتم سوى بمصالحه بغضّ النظر عمّن يؤمنها في الداخل.