مخاطر التكنولوجيا والمعلّبات الغذائية على التركيز الدماغي
روزيت الفار-عمّان
هل سمعتم أعزائي القرّاء ب :” التّركيز المسروق” أو ما يُعرف بالانكليزية ب :” Stolen Focus”؟ إن لم تكونوا قد سمعتم سابقا به، ركِّزوا إذاً قليلاً معي، لان في الأمر خطرا كبيرا على حياتكم وأدمغتكم وانتاجكم وفرحكم في هذه الحياة.
الانتباه؟
الانتباه والتّركيز والذّاكرة، عوامل أساسيّة في التّفوّق والتّطوّر. فإذا كان الانتباه مهمّاً لإدخال المعلومات للدّماغ، فالتّركيز ضروريٌّ لتخزينها، والذّاكرة لاستدعائها والاستفادة منها وقت الحاجة.
يقول “يوهان هاري” الصّحافي السّابق والكاتب الإنجليزي السّويسري في كتابه “التّركيز المسروق” “:لا يُمكنك أن تعمل بكامل طاقتك وفاعليتك؛ إلّا إذا كانت حالات الإلهاء والتّشتيت من حولك صفراً، بمعنى أن تكون بحالة تركيز تام.
لكن؛ هل هذا الأمر مُمكنٌ؟
في سلسلة لقاءاته على اليوتيوب -والّتي ناقش فيها محتوى كتابه مع خبراء ومختصّين- قال هاري إنّه أمضى ثلاث سنوات في السّفر والتّجارب والبحث قبل كتابة مؤلّفاته عن الاكتئاب والإدمان والتّشتّت. أفاد بأن أزمة التّشتت هي ظاهرة جمعيّة لا تقتصر على الفرد، بل تأتي داخل نظام يشكّلُ الفرد جزءاً منه، تماماً كحالات السّمنة وتلوّث المناخ. فهي بالتّالي أزمة منهجيّة تتطلّب حلولاً منهجيّة.
فما أسباب “فقدان التّركيز” ودواعي القلق منه؟ هل أصبح مدى تركيزنا أقصر؟ وكيف يمكننا معالجة تلك الظّاهرة؟
“انتباهك لم يتداع؛ بل تَمَّت سرقته”
“أنت لست ضعيفاً. لقد تمَّ اختراقك”
يضع معظمنا اللّوم على ذاته حين يشعر بعجزه عن التّركيز وضعف الانتباه، لكن السّارق أو المُخترق الحقيقي هو قِوى كبيرة ساهمت شركات التّكنولوجيا الكبيرة والاختراعات الحديثة المُتسارعة؛ لحدٍّ كبير في إيجادها، حيث بات باستطاعتها تتبّعك وسجنك أمام شاشاتها لساعات طوال والتّلاعب بك والتّمكّن منك؛ وذلك ضمن سباق هذه الشّركات الشّرس بطبيعته والمُقلِق بطريقته، لامتلاك الطّبيعة البشريّة والسّيطرة عليها بهدف تحقيق أكبر ربح والعمل على استمراريّته وصعوده. فنجد المواطن الأمريكي يقضي بالمتوسّط،17 دقيقة يوميّاً بقراءة الكتب، و5.6 ساعات على هاتفه المحمول. وهناك أشخاص بدول أخرى بالعالم ومنها للأسف، دولنا، يقضون مدّة أطول من ذلك بكثير دون أن يعلموا بأنّ الوقت الّذي يقضونه أمام الشّاشة أُثبت علميّاً بأنّه يُفقِدهم أضعاف حجمِه من التّركيز والانتباه.
تتزايد المؤثّرات السّالبة لقدرتنا على التّركيز يوماً بعد يوم. أنظر إلى “تيك توك” كيف تفوّق على باقي مواقع التّواصل الاجتماعي في قدرته على توليد الإدمان على استخدامه وخاصّة لدى الأطفال والشبّاب الّذين هم بُناة وأمل المستقبل.
يقول د. إيرل ميلر، طبيب الأعصاب، “يمكن للعقل إنتاج فكرة أو اثنتين في وقت واحد لدى الأشخاص شديدي التّركيز، بينما نجد أنّ بإمكان الشّباب اليوم متابعة 6 أو 7 أشكال من الوسائط في الوقت ذاته، وهنا تحدث سلسلة من التّبديل والتّحويل بالدّماغ وإعادة تكوينه من لحظة لأخرى ومن مُهمّة لسواها. بالرّغم من أنّ الأمر يبدو بشكلِه بسيطاً، لكنّه يقلّل من مستوى الوعي والتّركيز.
ويضيف ميلر، أنّه حين تتمّ مقاطعة الشّخص أثناء تركيزه بالعمل، فإنّه يحتاج بالمتوسّط إلى 23 دقيقة لاستعادة نفس المستوى من التّركيز الّذي كان عليه بالسّابق بالرّغم من جدّيتها في إحداث تدهور بالتّركيز وانخفاض بمستوى أداء الفرد ونوعيتّه؛ لكنّ أدوات التّطوّر التّكنولوجي لم تعد هي الأسباب الوحيدة لحدوثه. فبالإضافة لها هناك نمط التّغذية. ففي علم النّفس التّغذويNutrition Psychology -والّذي يبحث بكيفيّة تأثير ما نأكله على كيفيّة عمل الدّماغ- أثبت أنّ الأغذية المُصنّعة والمعالجة جينيّاً تؤثّر على قدرة التّركيز بعدّة أوجه:
- تسبّب ارتفاعات بالطّاقة عند بداية تناولها لا تلبث أن تهبط وتتعطّل، ما يتركنا في حالة دماغيّة ضبابيّة. فمثلاً أكل الخبز الأبيض أو رقائق الذّرة والحبوب المُحلّاة cereals على الفطور يمنحك طاقة هائلة يتبعها هبوط يشعرك بطلب المزيد منها أو الانحطاط وعدم القدرة على التّفكير بوضوح إن لم يتمَّ لك ذلك.
- لا تتوفّر فيها العناصر الغذائيّة الضّروريّة لنمو وتطوّر الدّماغ بشكل كامل وسليم.
- تحتوي على أصباغ ومواد كيماويّة حافظة ومثيرة للشّهيّة تولّد الإدمان لدى آكليها وخصوصاً الأطفال، تعمل كالمخدّرات والأدوية للدّماغ فتزيد من نشاطه وتجعل بعض الأطفال عدوانيين وترفع مستويات السّمنة لديهم وتفسد تركيزهم، كالمشروبات والحلوى المعلّبة والمكيّسة.
كما تعتبر أنماط النّوم وعدم العناية بمدّته ونوعيّته أسباباً جوهريّة في مدى التّركيز والانتباه لدى الفرد.
وهناك ما يُعرف “بخزنة الهاتف” K Safe وهي خزنة رقميّة صغيرة تلقي بها هاتفك وتغلقها مع وضع مؤقِّت زمني لا يمكن تجاوزه حتى تنتهي المدّة الّتي قمت بتحديدها عند الإغلاق. يستطيع الشّخص الّلجوء لهذا الأسلوب حين الحاجة وهو أسلوب ينصح باستخدامه، ويخلق عادات إيجابيّة لديه.
رأى الكاتب أنّ للإجهاد وساعات العمل المتواصلة والطّويلة دون أخذ أقساط كافية من الرّاحة للتّرفيه واستعادة النّشاط، تأثيراً مهمّاً ومباشراً على كفاءة عمل الدّماغ والتّركيز الجيّد.
كما وأتى على ذكر وباء الكورونا وكيف أوجد حالة ما يُسمّى “فرط اليقظة” وما لهذه من تأثير سلبي قوي على إضعاف التّركيز، وهي حالة تُبقي الشّخص في حالة تيقّظ وتوجّس وترقّب لما يمكن أن يحدث من مخاطر ومصائب من حوله، ما يسلب تركيزه ويقوّض مقدرته عن الاهتمام بباقي واجباته تجاه نفسه والمحيطين به. فالبيئة الآمنة أمرٌ ضروري للنّمو والتّطوّر وعكسها، البيئة الخطِرة تضرّ بمستويات التّركيز. فالتّركيز العميق يحتاج لبيئة تحقّق السّلامة والاطمئنان.
إنّ الخروج من الأزمة يتطلّب مجهوداً مشتركاً: فرديّاً، يتعلّق بالأمور الّتي يكون لنا فيها قدرة على السّيطرة والتّحكّم، وآخر؛ يحمل تصدّياً جمعيّاً وإيماناً بأننا بشر ذوو إرادة صلبة مستقلّة يجب ألّا نستميت وننجر خلف هذا الغزو والزّحف الهائل للتكنولوجيا وأن نستخدمها لصالحنا وليس لتدميرنا. بمعنى القيام بإجراء تحوّل بالمنظور والثّقافة ونشر الوعي والبحث المستمر عن إشارات الأخطار الّتي تسبّبها بهدف تجنّبها.