هذه حقيقة العلاقات الصينية الروسية على ضوء أوكرانيا
لجين سليمان-الصين
“تسألون عمّا إذا كانت الصين ستفرض عقوبات على روسيا؟ من الواضح أنكم لا تفهمون سياسة الحكومة الصينية بما فيه الكفاية… الصين تعارض دائماً العقوبات غير القانونية من جانب واحد”… هو الرد الذي جاء على لسان المتحدثة باسم الخارجية الصينية عندما سألها أحد الصحفيين عما اذا كانت ستفرض عقوبات على موسكو كما يريد الغرب.
أما وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” فقد أكدّ على أنّ ” حل الأزمة الأوكرانية يجب أن يستمّ بالهدوء، وليس بصبّ الزيت على النار، وذلك استعدادا للعب دور في تعزيز السلام والحوار” مشيرا إلى أنّ “رؤية الجانب الصيني لحل الأزمة الراهنة تتطلّب التمسّك بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة واحترام وضمان السيادة وسلامة الأراضي لجميع الدول، بالإضافة إلى التمسّك بمبدأ الأمن غير القابل للتجزئة ومراعاة الشواغل الأمنية المعقولة لأصحاب الشأن، وحل النزاعات سلميا بطريقة متوازنة وفعّالة ومستدامة مع وضع الأمن والأمان الدائمين للمنطقة في عين الاعتبار”
هذه التصريحات وغيرها دفعت بكثيرين إلى إعادة التفكير مجددا بمستقبل العلاقات الصينية الروسية، خاصة وأنّ نوعا من التحالف “الصيني الروسي الإيراني ” كان قد ظهر مؤخرا على الساحة الدولية، الأمر الذي عدّه البعض حينها أنه بمثابة قطب جديد مقابل للقطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية. إلا أنّ تلك التصريحات طرحت تساؤلات بخصوص جديّة هذا التحالف.
لفهم الموضوع بشكل أكبر لابدّ من استعراض تاريخي للعلاقات الصينية الروسية منذ إعلان جمهورية الصين الشعبية عام 1949 وحتى اليوم.
تاريخيا
في اللحظات الأولى التي انتصر فيها الشيوعيون وأعلنوا تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، ظهر نوع من التقارب مع الاتحاد السوفيتي، خاصة وأنّ الاتحاد السوفيتي كان من أوائل الدول التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية. وقد أبرمت معاهدة “الصداقة والتعاون” بين البلدين عام 1950 حددت فعاليتها بثلاثين عاما. وتضمّنت تقديم قرض من الاتحاد السوفيتي إلى جمهورية الصين الشعبية بقيمة 300 مليون دولار، هذا فضلا عن إرسال خبراء من الاتحاد السوفيتي إلى الصين للمشاركة في بناء الصين الحديثة، إذ كانت الحركة الشيوعية في الصين جزءا لا يتجزّأ من الحركة الشيوعية العالمية، ولم تزل بعض الجسور والبنى التحتية في الصين قائمة حتى يومنا هذا وشاهدة على عمق التعاون آنذاك. لم يُعمل بهذه المعاهدة في السنوات الأولى بسبب خلافات نشأت نتيجة لأسباب مختلفة اقتصادية وعقائدية.
ظلّت تلك العلاقات متوترة حتى أواسط الثمانينات، ولم تعد إلى سابق عهدها حتى زار الرئيس السوفيتي “ميخائيل غورباتشوف” العاصمة “بكين” عام 1989.
أما على المستوى السياسي فقد استطاع الجانبان تجاوز خلافات أساسية بينهما حول النزاع الحدودي، حيث وقّع الجانبان اتفاقا لترسيم الحدود بينهما عام 2008، تلك الحدود الممتدة لمسافة 4300 كم، وقد نصّ البروتوكول الجديد على أن تعيد روسيا جزيرة “ينلونغ” ونصف جزيرة “هيشياتسي -جزيرة بولشوي يوسوريسكايا” إلى الصين.
التعاون
في عام 1996 وتحديدا في “شنغهاي” الصينية تأسّست “مجموعة شنغهاي” التي ضمّت كلا من (الصين، روسيا، طاجيكستان، كازاخستان، قيرغيزستان). وفي عام 2001 تم توسيع المنظمة من خلال دخول “أوزباكستان”، تهدف المجموعة بشكل رئيسي إلى تعزيز التعاون بين الدول الاعضاء و مناقشة عدد من المواضيع المهمة بشكل دوري .
عام 2014 وُقّعت اتفاقية لمدّ خط “قوة سيبيريا” تبلغ قيمته 400 مليار دولار، لتصدير الغاز الروسي نحو الصين، وهو واحد من أكبر مشاريع الطاقة في شرق آسيا، يهدف إلى توريد 38 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الروسي إلى الصين مدة 30 عاما. إذ تعد روسيا ثالث أكبر مورد للغاز إلى بكين.
وتُشَكِّل روسيا على المستوى العسكري أهم مزوِّد للصين بالسلاح منذ أن فرضت الدول الغربية حظرًا على مبيعات الأسلحة إلى الصين سنة 1989، وتمثِّل مبيعات السلاح الروسي أهم مصدر في عمليات التحديث الواسعة، التي عرفتها القوات البحرية والجوية الصينية في العقود الأخيرة؛ وتشمل المبيعات الطائرات المتطورة، والغواصات، والمدمرات، وصواريخ أرض-جو. كما شهد العام 2018 مناورة “الشرق” وهي الأكبر في تاريخ روسيا. وفي العام 2019 أجرى الجانبان مناورة مشتركة فوق بحر شرق الصين الشرقي وبحر اليابان.
في عام 2018 وصل حجم التجارة بين الصين وروسيا إلى 108 مليار دولار أمريكي، تضمّنت الصادرات الروسية المنتجات الغذائية والمنتجات البيتروكيماوية والأخشاب والأسمدة . كما قالت إدارة الجمارك العامة الصينية أن حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا قد ارتفع في الفصول الثلاثة الأولى من عام 2021 بنسبة 29.8% مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي. كما نمت الصادرات الصينية إلى روسيا خلال الفترة المشمولة بالتقرير، بنسبة 32.4٪ من حيث القيمة السنوية وبلغت 47.401 مليار دولار. وزادت الواردات من روسيا إلى الصين بنسبة 27.6٪ لتصل إلى 55.128 مليار دولار.
وضمن هذا السياق لا بدّ من ذكر الإعلان الأخير الذي جاء في 4 شباط من العام الحالي وسط مشهد انطلاق الألعاب الأولمبية حول “شراكة استراتيجية وصداقة بلا حدود” .وشملت الاتفاقيات الموقَّعة بين الجانبين اتفاقيةً لتوريد الغاز الروسي إلى الصين، عبر خطّ أنابيب جديد طاقته 50 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، وتوريد 10 مليارات متر مكعب من الغاز الروسي إلى الصين، سنوياً، على مدى 30 عاماً، بدءاً من عام 2026، بالإضافة إلى تسوية مبيعات الغاز بين الجانبين باليورو بدلا من الدولار الأمريكي.
الموقف الحالي
على الرغم من التعاون السابق الذكر إلا أنّ المواقف السياسة الأخيرة من قبل الصين تجاه الحرب الأوكرانية، جعلت البعض يعيد النظر في التحالف الصيني الروسي.فقد جاءت تأكيدات لوزير الخارجية الصيني “وانغ يي” بضرورة احترام أراضي الدول وسيادتها بما في ذلك أوكرانيا مع وجوب التعامل بشكل مناسب مع مخاوف موسكو وهو النهج نفسه الذي اتبعته الصين خلال ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014. يأتي هذا الموقف انطلاقا من السياسة الصينية التي تنادي بشكل مستمر باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ليس فيما يتعلق بأوكرانيا فقط وإنما في أي دولة.
كما أن امتناع الصين عن التصويت على قرار لمجلس الأمن الذي يدين الغزو الروسي، أعاد التشكيك في حقيقة التحالف والشراكة الروسية الصينية، خاصة وأنّ كثيرين كانوا قد توقعوا أن تظهر بكين تعاطفا أكبر تجاه روسيا، إلا أنّ الحقيقة أظهرت أن التزام الصين بثبات تجاه سياستها الخارجية يبقى الأهم والأكثر أولوية.