أين نحنُ من الهوية والاعتراف بالآخر؟
لُجين عصام سليمان-الصين
ربما هي قصة بدأت تمسّنا بشكل فعلي في التاريخ الحديث عام 1948 عندما أُجبر أول فلسطيني على ترك منزله نازحا إلى مكان آخر، مكان قد يكون أبعد جغرافيا عن بؤرة الألم ولكن كلما ابتعدت عنه شعرت بوجع أكبر، وجع من نوع آخر، يشخّص على أنه ألم في “الهوية”..تلك “الهوية” التي نحاول بناءها بالتشارك مع محيط نحبّه ونألفه، فنحافظ عليها وننسب إليها كلّ ما هو جميل أو على الأقل ما نرى أنه جميل وكأننا بذلك ننسبه إلى صفاتنا. لكن عندما تقرع الحروب طبولها، وتعلن السياسة عن زمن جديد بتفاهمات مختلفة، علينا أن نتخلّى عن تلك الهوية، إما قسرا وإما طوعا، وإما بشكل كامل أوتدريجي، ليتكيّف كلّ منا مع هوية جديدة تناسب موقعه الجديد في هذا الزمن المضطرب.
وبما يقارب المعنى السابق، ينهي الكاتب الكندي “ألبرتو منغويل” كتابه “مدينة الكلمات” بالعبارات التالية:
“مرتبطين بموقع محدد عبر الولادة وروابط الدم، المشاعر المتعلمة او الحاجة المكتسبة، نتخلّى أو نرغم على التخلّي عن هذه الارتباطات، وننتقل إلى تحالفات وولاءات جديدة، ستتحول بدورها مجددا رجوعا أحيانا وتقدما أحيانا أخرى بعيدا عن مركز متخيّل. تتسبب هذه الحركات بالقلق فرديا وجماعيّا. فرديّا لأن هويتنا تتغير مع الارتحال، نغادر منازلنا قسرا أو طوعا كمنفيين أو لاجئين أو مهاجرين أو مسافرين، مهددين أو مضطهدين في وطننا أو مرتبطين ببساطة بأراض أخرى وحضارات أخرى. واجتماعيّا لأننا إن بقينا فإنّ المكان الذي ندعوه وطنا سيتغير. إن وصول ثقافات جديدة وغزوات الحرب والثورات الصناعية وتحولات التقسيمات السياسية وإعادة التمركزات الإثنية واستراتيجيات الشركات المتعددة الجنسيات والتجارة العالمية، يجعل من المستحيل تقريبا التمسك مدة طويلة بتعريف مشترك للقومية”.
يحاول الكاتب “منغويل” التطرّق إلى تعريف مفهوم “الهوية الوطنية” من خلال تقديم مثال قامت به حكومة “توني بلير” في بريطانيا يقول : “بعد مرور أكثر من قرن على حكم فيكتوريا، قررت حكومة توني بلير، بعد أن واجهها تعاظم عدد المسلمين البريطانيين الشباب، الذين يصرّحون بولائهم للإسلام لا لبريطانيا العظمى، فأصدرت قرارا في كانون الثاني 2007، يشدد على وجوب تأكيد فكرة الهوية في المدارس البريطانية، أي بدلا من إتاحة المجال لوجهة النظر الإسلامية كي تصبح جزءا من تنوع وجهات النظر المتأصل أساسا في أي معنى من معاني الهوية البريطانية” .
ويضيف “قررت الحكومة حصر مفهوم الهوية البريطانية في لون محلي معمم مثل ذلك المستخدم في البروباغندا السياحية، فعارضت مفهوم التعددية الثقافية بمفهوم الأحادية الثقافية حيث يُفترض بجميع الثقافات ان تمتزج دون تمييز، ولكن فعليا بحيث يصبح للثقافة المهيمنة الصوت السائد”.
ويصل إلى استنتاج مفاده أنّ “ما كان خاطئا في التعددية الثقافية ليس الاعتراف بالتعدد، بل تأكيدها المفرط على التمييز على حساب الوحدة”
وكمثال آخر على طمس هوية الآخر مقابل إظهار الفكر الوحدوي، هو ما قام به “غوردن براون” رئيس الوزراء البريطاني السابق، عندما أكدّ على الفكر الوحدوي بدلا من الانفصال عن الهوية البريطانية.
وهو ما يتطرق إليه “مانغويل” معلقا “ما أغفله “براون” هو أنّ “الانفّصال ليس هو ما يهدد الهوية بل اعتبار الاخرين المنفصلين عناصر تهديد”.
ولربما الحرص على الهوية الأوروبية أنذاك هو ما دفع الرئيس الفرنسي السابق”نيكولا ساركوزي” في الثامن من آذار عام 2007 إلى إحداث وزارة “الهجرة والهوية الوطنية” الأمر الذي أحدث ضجة آنذاك لدى المهتمين بحقوق الإنسان، لما يحمله هذا التوجه من أبعاد عنصرية. فهل جمع المهاجرين بهوياتهم المتعددة تحت راية الهوية الفرنسية يعدّ حماية لفرنسا؟…وقد أثار هذا الأمر غضب المعارضة اليسارية آنذاك والتي أكدّت على صعوبة تحديد الهوية الوطنية في بلد أثّرت فيه أجيال متتالية من المهاجرين وساهمت في إثراء ثقافته.
يوصلنا الحديث عن الهويّة إلى فكرة “الآخر”، “الآخر” الذي نرى فيه تهديدا لنا، وهنا لا بدّ من ذكر الرسالة الفلسفية التي ألّفها “إراتوستيس القيرواني” والتي رفض فيها مبدأ التقسيم الثنائي للجنس البشري بين يونان وهمج، مقترحا أن يكون هذا التقسيم بين الفضيلة والرذيلة، خاصة وأن كثيرا من اليونانيين أرذال فيما يتمتع كثير من الهمج بحضارة مصقولة.
هذا ينافي تفكير معظم السياسيين، من ضمنهم “براون” و “ساركوزي” اللذين اتبعا منهج إقصاء الآخر للحفاظ على الهوية الغربية، فالمجتمع المفتوح على الآخر هو مجتمع عصيّ على التمييز، خاصة إذا أبدى الآخر تمسّكا بهويته، ورفض أن ينصهر في عادات وتقاليد المجتمع الجديد.
أما “روبرت لويس ستيفنسون” فقد أصدر روايته “القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد” والتي تجسّد الصراع بين الخير والشر في النفس البشرية، وقد عرض في روايته أنّ الخوف من الاخر هو الخوف مما في انفسنا. وتلك ملاحظة في الغالب دقيقة، وبخاصة أننا عندما نهاجر إلى أي مجتمع غريب تحت أي نوع من الضغوط، فإننا وفي أكثر الأحيان ننعت الآخر بجنسيته، ونعمم الصفة على شعب البلد بأكمله، فمثلا عندما نذهب إلى ألمانيا، نضع بين الحين والآخر الجملة التالية “إنّ الألمان يفكرون بهذه الطريقة” أو عندما نذهب إلى فرنسا نقول “إن الفرنسيين يتصرفون كذا”، هو الأمر الذي يحدث باللاوعي نتيجة شعورنا بالغربة والخوف من الآخر، فنطلق تعميما ونعتقد أننا نجحنا في وضع توصيف دقيق.
يبدو أن الحل موجود في كتاب “الهويات القاتلة” للكاتب اللبناني “أمين معلوف” عندما يقدّم نصيحة للتوجه نحو الآخر، فيقول ” من أجل التوجه بإصرار صوب الآخر يجب أن تكون الذراعان مفتوحتين والرأس مرفوعاً. ولا نستطيع فتح ذراعينا إلا إذا كان رأسنا مرفوعاً. إذا شعرنا في كل خطوة أننا نخون أهلنا ونتنكّر لأنفسنا يصبح تقدّمنا باتجاه الآخر باطلاً”.
لا يمثّل ازدراء الآخر المقابل تمسّكا بحضارتنا، ولا التقليل من قيمته رفعة لما نحمله من قيم، فحتى ولو أجبرنا على ترك مكان ما، لظروف اضطرارية مختلفة، علينا الإخلاص لهويتنا بشكل أكثر رفعة وشموخا من اللجوء إلى الازدراء بالآخر أو حتى الانغلاق على أنفسنا بدافع الحفاظ على هوية قد تحميها طرق أخرى أكثر ديمومة.
وبالمجمل، ربما تكون الهويّة هي ذاكرة لما ألفناه وتركناه، ووجع يومي نعاني فيه حتى نثبت لأنفسنا أننا ننتمي، هو انتماء نطمح أن يوصلنا إلى مستقبل مستقر في جغرافية آمنة تسمّى “وطنا”، على أمل أن نتوصّل جميعنا ذاك “الاستقرار” المسمّى “وطنا”.
غالبا ما يلوم العرب، الأمم والدول الأخرى على عدمِ اعترافها بالآخر الموجود على أرضها أو خارج حدودها، لكننا لو دقّقنا في كيفية تصرفنا مع العمّال الأجانب في بلادنا، ومع عاملات المنازل، ولو دقّقنا أكثر في نظرتنا الفوقية الى الألوان الداكنة رغم سمرةِ معظمنا، وفي نظرة الكثير من حُكّامنا وقادتنا الى من يختلف معهم بالرأي، لوجدنا أننا نحن أيضا مبتلون بهذا الوباء الإقصائي المُسمّى :” عدم الاعتراف بالآخر”.