هل الحبُّ في القلب أم الدماغ؟
روزيت الفار- عمّان
يقول نزار قبّاني:
الحبُّ على الأرضِ بعضٌ من تخيُّلِنا/ لو لم نجده عليها لاخترعناه
عادة ما تتلاقى الأمم والشّعوب على ما يجمع بينها من ممارسات وظواهر؛ بغية التّأسيس لعلاقات ولإقامة روابط من أجل التّفاعل والتّواصل فيما بينها خدمة لهم ولمجتمعهم. من بين هذه الظّواهر؛ بل أهمّها؛ “الحب”.
يشكّل الحب بمفهومه العام لدى علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، ظاهرة اجتماعيّة وجدت مع الإنسان منذ ولادته ولازمته عبر العصور والأزمان وفي مختلف الحضارات. ويُعدّ حاجة طبيعيّة وجوديّة وضرورة اجتماعيّة لاستمرار عيشه وبقاء نوعه.
عرّفَه الفلاسفة بأنَّه “أمرٌ مجرّد غير محسوس لا يمكن تفسيره بالمنطق تسبّبه موروثات مكتسبة وأخرى غريزيّة أو انفعالات داخليّة بوجودٍ لواقع فعليّ أو خياليّ يكون به طرفان يشعران بنفس قيمة اللّذة عند الّلقاء أو عند التّفكير ببعضهما؛ يخلقه وعيٌ لديهما بأنّ هناك حاجة ممتعة لم يمتلكاها أو يشعران بها من قبل”. يفسّره آخرون بأنّه التّوق لإيجاد النّصف الآخر الّذي يجعلنا نشعر بالاكتمال -تفسير ترفضه العقيدة الرّوحانيّة-. ورأي ثالث يصفه كغطاء جميل للعمليّة الجنسيّة؛ ويقولون بأنّه دون نشوة الحبِّ العاطفي لن تكون الممارسة الجنسيّة مُرضِية.
يراه الرّوحانيّون نوعاً من التّسامي الرّوحي الّذي يرقى بالنّفس وبالشّخصيّة إلى مرحلة ومستوى أعلى مما كانت عليه في العالم الجسدي والمادّي، ويعتبروه متّصلاً مباشرة بالله وهو روح عقيدتهم. يقولون بأنّه حين يرتقي الإنسان لتلك المرحلة فإنّه يتكامل مع ذاته وينقّيها ويطهّرها.
يقول المعلّم الرّوحي سادغورو: إن لم تكن قد تعلّمت الحب وكنت محبّاً بطبيعتك؛ فإنك لن تعرف ما هو الحب.
هناك أنواع متعدّدة من الحب؛ أهمّها؛ الحب الرّومانسي. فما هو هذا الحب؟ وهل أمر الوقوع به محكوم بالقضاء والقدر؟ أم نحن من نسعى إليه بأنفسنا؟ أم ماذا؟
عادة ما يأتي هذا النّوع عن طريق “الصّدفة”، يلتقي به شخصان دون استعداد أو توقّع أيٍّ منهما له ودون ترتيب مسبق لا لزمان حدوثه أو مكانه. تقع عين أحدهما أو كليهما على الآخر بوقت متزامن، وتنطلق حينها شرارة الحبّ من النّظرة الأولى. تبدأ عوارضه بالظّهور فور حدوثه؛ كخفقان بالقلب وارتباك بالسّلوك؛ ثمّ محاولة لفت الانتباه وسرقة النّظرات. ومن ثمّ يتحوّل إلى انجذاب عاطفي تتبعه مواعدة قد تتطوّر إلى انجذاب فكري وجسدي يظهر خلاله اهتمام أحدهما بالآخر وتفضيله إيّاه على نفسه والتّفكير المستمر به، وتولد مشاعر عميقة تجاهه. يخلق لدى كلٍّ منهما شعوراً بالسّعادة المقرونة بعدم التّحكّم بالعواطف وزيادة بالطّاقة.
فما هو هذا الشّعور الّذي يحتلّ قلوبنا ويغزو كياننا ويخترق أدمغتنا ويسيطر على مراكز التّحكم فيها ويقرصن جملتها العصبيّة ويتمكّن من إدارة عواطفنا وأحاسيسنا ويوجّه سلوكنا ويبقينا ساهرين حالمين؟
للعلم رأي وتفسير لا يربطان الحبَّ بالقلب كما هو شائع؛ بل يقولان بأنّه عمليّة نفسيّة بيولوجيّة كيماويّة مرتبطة بالدّماغ وهو مَن يتحكّم بجميع تفاعلات الجسم الدّاخليّة النّاتجة بسببها والّتي تنعكس على حركات أعضائه الخارجيّة. كيف يكون ذلك؟
لقد وُلِد الإنسان بفطرة يسعى من خلالها إلى تحقيق اللّذة والسّعادة ويتجنّب الحزن والألم. وُلد ومعه جميع الأدوات الّلازمة لذلك. فهناك الكثير من مناطق الدّماغ تحثُّ على السّلوك الإيجابي، مرتبطة بعمليّة التّحفيز والمكافأة، تنشط بشكل أكبر حين يكون الشّخص بحالة حب.
يقلّل نشاط هذه المناطق من الخوف والتّوتّر ويعيق السّلوك الدّفاعي ويزيد من مستويات الثّقة لدى المحب. تدعم هذه المناطق؛ مناطق أخرى بالدّماغ يبطأ نشاطها وتتوقّف وظيفتها وتخفّ فيها النّشاطات السّلبيّة تجاه الحبيب، كإصدار أحكام ضدّه أو اتّهامات تدينه. فبالتّالي فإنّ استجابة الدّماغ عند المحبّين تتركّز على المكافأة وتحفيز استمراريّة التّفاعل بينهم ووقف الاستجابة والسّلوك السّلبي.
يوجد في الجسم والدّماغ غدد تفرز هرمونات ضروريّة لحدوث أيٍّ من وظائفه. فهرمونات التّستوسترون والأستروجين لدى الرّجل والمرأة؛ مهمّان عند البلوغ والإنجاب أو لتلبية الرّغبات الجنسيّة. أمّا الدّوبامين والسّيروتونين والنّوربينفيرين، فهي لمنح الشّعور بالسّعادة يتمّ إفرازها في حالة الحب والانجذاب. وفي حالة التّعلّق والارتباط فينشط الأكستيسين وهو هرمون يمنح الشّعوربالّلذة والنّشوة.
طوّرنا نحن البشر هرموناً اسمه “الفاسوبرسن” وهو مسؤول على بقاء العلاقة قائمة بين الشّريكين والمحافظة على الوفاء والإخلاص نحو الآخر بعد الارتباط ومجيء طفل، وذلك بهدف البقاء معاً لتربية الوليد الّذي يحتاج رعاية لسنوات قبل أن يصبح مستقلّاً ومُعتمداً على نفسه.
فالحبّ إذاً من النّاحية العلميّة عبارة عن وظيفة بيولوجيّة ومقادير كيميائيّة (هرمونات) بين النّواقل العصبيّة في الدّماغ تتحكّم بالسّلوك البشري وتعمل على نظام الكفاءة.
فإن كنّا نؤمن بالوقوع بالحب صدفة، فتفاعلاته بالجسم علم. وردود أفعاله والتّعامل معها؛ تربية وثقافة وفن. والمحافظة عليه والنّمو به قرار.
بالنّهاية، مهما كانت أسبابه وتداعياته السّلبيّة، يبقى الحبُّ أمراً جميلاً بالحياة، فهو الّذي ألهم الشّعراء لكتابة أجمل قصائد الحبِّ والغزل، والفنّانين لنحت ورسم أجمل الأعمال، والموسيقيين لتأليف أروع المعزوفات والألحان. شكراً لك أيّها الحب فأنت الفرح والنّور بل إنّك إكسير الحياة.
كم جميل أن نجعله أسلوب حياة نمارسه كل يوم، وليس مناسبة نحتفل فيها مرّة بالسّنة وليوم.
كل عام والجميع بخير.Happy Valentine’s Day