سامي كليب:
انتشرت في العالم كالنار في الهشيم، التقارير التي تكشفت تورّط نظام المعلوماتية الإسرائيلي ” بيغاسوس” بالتجسس على دولٍ وأحزابٍ وشخصيات سياسية وناشطين حقوقيين عبر العالم وبينهم من هم في الوطن العربي. وهو نظام انتجته شركة NSO التي اخذت اسمها من الاحرف الأولى لثلاثة مهندسين بدأوا تجربتهم في مزرعة للدجاج قبل أن ينتشر صيتهم في عالم المعلوماتية السرّي ويتم شراء برامجهم بمئات ملايين الدولارات من قبل دول عديدة. وقد أُخضعت عمليات بيع البرنامج لوزارة الدفاع الإسرائيلية.
وكما انتشرت التقارير كالنار في الهشيم منذ فترة قبل أن تكشف صحيفة ” نيويورك تايمز” في عددها أمس نتائج تحقيقها الذي استمر عاما كاملا، انتشرت ردود الفعل وعمليات النفي ومحاولات كبح جماح واحد من أهم فضائح المعلوماتية حاليا. ويمكن لمن يود قراءة التقرير أن يجده إما على موقع الصحيفة أو في العديد من المواقع العربية التي نشرت ترجمته الكاملة.
ما يهمّنا أمام هذه القضية الخطيرة هو التأكيد على عدد من المُسلّمات الضرورية وهي التالية:
- أولاً: إن البرنامج يكشف مُجدّدا أن حروب المستقبل هي حتماً تكنولوجية وعلمية. وإن العرب المتخلّفين جدا في هذا المجال، لم يخترعوا بعد في كل هذا العالم مِسماراً واحداً. ما يعني أنهم إما سيشترون برامج لا يملكون مفاتيح التحكّم بها وذلك لحروبهم بين بعضهم البعض أو لمواجهة دول إقليمية تملك أيضا بعض أسرار هذا العالم، وإما سيكونون ضحايا لها.
- ثانيا: أن إسرائيل تخطت العرب بسنوات ضوئية في مجال الأمن السيبراني والحروب التكنولوجية، يقول مثلا موقع جامعة تل أبيب نقلا عن المؤسس السابق ورئيس النظام الوطني الإسرائيلي للامن السيبراني ايفياتار ماتانيا :” إن 40 بالمئة من الاستثمارات الخاصة العالمية في مجال الأمن السيبراني تحصل في إسرائيل، وان 15 بالمئة من الصادرات الإسرائيلية هي في مجال التكنولوجيا العالية، ولو قيست النسبة من خلال عدد سكان إسرائيل، فإن هذه الأخيرة هي الأولى عالميا في مجال تكنولوجيا المعلوماتية وفي نطاق الاستثمار الرسمي في هذا القطاع الى جانب كوريا الجنوبية، خلف الصين والولايات المتحدة الأميركية”.
- ثالثا: إن الكشف عن هذا البرنامج ما كان سيتم لولا خلافات حصلت بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي، ولولا اكتشاف تجسّسٍ على إسرائيليين في الداخل، ولولا غضب بعض الرأي العام العالمي الذي اكتشف أن بعض حكوماته تتجسس عليه.
- رابعا: إن الكشف عن دول عربية متورطة في شراء هذه الأنظمة (ورغم نفيه من قبلها)، يؤكد أن لا شيء يقوم به العرب مع إسرائيل يبقى سريّاً مهما طال الزمن ذلك ان الكشف عن الاسرار دائما ما يأتي منها في لحظة تختارها هي لأهداف تحددها هي. ولو راجعنا معظم الكتب والوثائق، سنجد أنها وقفت خلف كشف كل من تفاوض معها سرّا. ذلك أن كتمَ السرّ أو كشفَه في إسرائيل يكون دائما لخدمة اجندتها السياسية والأمنية أو وسيلة للضغط على من تفاوضهم أو تقيم علاقات معهم.
- خامساً: يُثبت ما كشفته التقارير أن التكنولوجيا الحديثة إن كانت تُساعد المنتفضين على دولهم وحكوماتهم في التواصل وكشف حقائق كانت متعذّرة قبل الثورة التكنولوجية، فإنها بالمُقابل ستُصبح أداة قمع بامتياز ضد الناشطين الحقوقيين والمعارضين وغيرهم، كما يُمكن ان تقع في أيادي إرهابيين (وهو ما كشفه مثلا التقرير السنوي ل CIA حول مصير العالم قبل العام 2040). فالقول الغربي بأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في محيطها وبأن العالم يحرص على الحريات في الوطن العربي تناقضه مبيعات هذه البرامج والأسلحة الفتّاكة غربا وشرقا الى كل الأنظمة، أكانت ديمقراطية أو دكتاتورية.
بناء على ما تقدّم، فإن العرب، بكل تنويعاتهم، وكل انقساماتهم المذهبية والطائفية والسياسية والمصلحية، وكل فرقتهم وتوزّعهم بين المحاور، يمرّون حاليا في فترة حاسمة وخطيرة من تاريخهم، ذلك أن من يملك مفاتيح تكنولوجيا المعلوماتية سيحكم العالم ماليا وسياسيا وأمنيا، وسيستطيع اختراق أي هاتف، أو جهاز او شاشة أو اجتماع. وهو بالتالي سيتحكّم بمصير ورقاب العرب أجمعين.
لاحظوا شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية منذ أيام، فهي وعلى جري عادتها في انقسامها بين المحاور، تستخدم هذه الفضيحة المعلوماتية الجديدة، لتكريس وتعميق وترسيخ الصراع بدلا من الإفادة مما حصل للتعلّم منه وقلب صفحة الخلافات والصراعات والحروب.
بين بيغاسوس الإسرائيلي، وسوس الفتن العربية التي تنخر مجتمعاتنا ودولنا نخرا، على العرب أن يختاروا، هل سيواكبون العصر فيطوّرون علومهم والتكنولوجيا الحديثة بأموالهم وقدراتهم البشرية والعلمية، أم يستمرون في جعل السوس ينمو فيهم وبينهم، فيفتح الأبواب لكل غازٍ وطامحٍ وطامعٍ ومحتل؟ كفانا اوهاما بانتصار محور على آخر، فالجميع منتصرون والعرب خاسرون.